قبل تسعة أشهر كان يوسف مقداد يعد الليالي لية بعد الأخرى، حتى تأتي اللحظة التي من المقرر فيها أن يكون حرا، وقد كان من المقرر إطلاق سراحه في نوفمبر 2023، لكن الاحتلال الإسرائيلي منع ذلك بسبب الحرب على غزة، ثم أفرج عنه في أبريل، قبل ثلاثة أشهر.
اختلفت كل أحلام مقداد، صدمت بصخرة الحرب التي قلبت كل الموازين، خاج وحيدا دون استقبال أحد من عائلته، يهيم في الأرض، يبحث عن أهله وعن منزله، فيتوه بعدما غيّر الاحتلال معالم قطاع غزة، وتحولت كل البيوت إلى أكوام من الحجارة، وتاهت الطرق.
قضى مقداد عقدين من الزمن في سجون الاحتلال، فقد اعتقل عام 2002 بتهمة الانتماء إلى كتائب شهداء الأقصى، ترك وراءه زوجة وخمسة أطفال، وخرج دون أي معالم للفرح كما يفعل أهالي غزة في استقبال أسراهم من السجون.
لم تكن هناك فرصة لاستقبال أسير بالزغاريد، فقد أفقدت هموم غزة أهلها أي شكل للفرح، اختلطت كل معالم الحزن في المدينة الحزينة، ووجد مقداد نفسه يسير بين خيام كثيرة، يبحث عن عائلته، وحينما وجدها اكتشف أن ابنته الصغرى التي تركها بعمر أربع سنوات، ولم يشاهدها منذ ذلك الوقت قد استشهدت مع زوجها وأطفالها.
"كنت أتمنى رؤيتها، لم أرها ولو مرة واحدة، ولا حتى أحد من أطفالها، سمعت أنها استشهدت في شهر رمضان مع زوجها وكل أطفالها، لا أعرف ابنتي، ولكني أعرف كل هذا الحزن الذي مر به شعبنا" ثم يشير إلى طفل يقف بجواره :" لقد جربت كل أصناف العذاب داخل السجون، ولكن هذا الطفل رأى أكثر مما رأيت من عذاب، عاش حروبا كثيرة، تجويع وتشريد وهدم، أنا كنت في السجن ولم أر ما رأه" .
يهون مقداد من أوجاعه، أمام أوجاع غزة التي يعيشها شعبنا منذ السابع من أكتوبر، والتي لم يتصورها عقل ولا يمكن للكلمات وصفها، مضيفا:" كل عذابات السنوات السابقة في السجن لا تقارن بعذاباته ما بعد السابع من أكتوبر: لا طعام، ولا شراب، كل يوم ضرب وإهانات، ممنوعين من كل شيء، ممنوعين من التواصل مع العالم الخارجي، مع أي محام، لا نعرف عن الدنيا شيئا ولا يعرف أحد عنا شيء، كل ما هو حق للإنسان الأسير منعه الاحتلال عن الأسرى منذ السابع من أكتوبر".
على يوسف الذي بلغ من العمر 61 عاما والذي تعرض قبل أعوام إلى نوبة قلبية حادة، وما يرافقها من إهمال طبي داخل السجون، عليه الآن أن يواجه كل عذابات النزوح كأي فلسطيني غزي، وعليه أن يبحث عن مصدر رزق لمن تبقى من عائلته، وعليه أن يعيد ترتيب حياة عبث بها الاحتلال في السجون، ثم عاش أسوأ أيامها بعد الحرية في خيمة نزوح لتبدأ حكاية نضال جديدة.
يهون مقداد على نفسه، في عينيه فرحة خجولة بحرية كان ينتظرها، لكنها فرحة سلبها الاحتلال بمشاهد الدمار، فمر خبر الإفراج عنه بين سطور كثيره مليئة بقصص الشهداء والمشردين والمدمرة بيوتهم، وبين القصص قصة أسير خرج بعد عشرين عاما، فوجد ابنته التي يتوق إلى رؤيتها قد استشهدت.