في محصلة نحو 10 أشهر من العدوان على غزة تتعاظم أسئلة الهزيمة في المجتمع الإسرائيلي وساسته ونخبه، وهناك إجابات تصل إلى درجة اليقين لدى شريحة واسعة داخل إسرائيل تتجاوز الإحساس بالهزيمة إلى تقبّلها كأمر واقع ومحاولة بناء إستراتيجية لاستيعابها، في حين يكابر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بوهم "إنجازات تكتيكية" ومزيد من المجازر ضد الشعب الفلسطيني.
وجدت إسرائيل نفسها وسط حرب طويلة لم تألفها قوضت نظريتها الأمنية، وجبهات متعددة لم تعهدها منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وأساليب وأدوات مختلفة شتتت منظومتها العسكرية والأمنية وكلفتها أثمانا فادحة في العتاد والأفراد، وفي سمعة جيشها واقتصادها ودبلوماسيتها ووحدتها المجتمعية الهشة، وأمام تطور في قوة الردع المضادة جعلها أمام حسابات عسكرية وإستراتيجية معقدة راهنا ومستقبلا.
وبالمقاييس العسكرية لا تحسب نتائج الحرب بجرد عدد القتلى والشهداء وإحداث أقصى قدر من الدمار وارتكاب المجازر البشعة التي تفوق فيها نتنياهو بإرث العقيدة الصهيونية أو احتلال الأرض، فاستمرار المقاومة وصمودها وتخبط الجيش الإسرائيلي في غزة وانقسام قياداته وتكبده خسائر فادحة وتحول الرأي العام العالمي ضد إسرائيل كلها عوامل لا تشي بأي إنجاز عسكري إسرائيلي حاسم.
بتداعيات هذا الوضع العسكري تشكلت حالة اجتماعية وسياسية وعسكرية ونفسية غير مسبوقة في الكيان الإسرائيلي تحت وطأة حرب ليس بإمكان إسرائيل تحمّل عبء استمرارها بحكم طبيعة تكوينها وعقيدتها العسكرية والفشل في تحقيق أهدافها المعلنة رغم الاختلال الكبير في الموازين العسكرية.
ويرى يائير أسولين الكاتب في صحيفة هآرتس (عدد 15 يوليو/تموز 2024) أن "أحد أعمق الخلافات في المجتمع الإسرائيلي اليوم بعد مرور أكثر من 9 أشهر على يوم السبت الأسود (هجوم المقاومة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي على غلاف غزة ومستوطناتها) هو بين أولئك الذين يدركون أننا هزمنا وأولئك الذين ما زالوا غير قادرين على قبول هذه الفكرة".
نتنياهو.. النجاة بإغراق إسرائيل
يبدو رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من بين هؤلاء الذين ما زالوا غير قادرين على قبول فكرة الهزيمة وفق أسولين، فرغم مأزقه الداخلي والخارجي المركّب يعتبر أن استمرار الحرب -التي باتت عمليات إجرام وقتل ممنهج للمدنيين- جرعات حياة له ولمستقبله السياسي والوجودي.
ويذهب بعض المحللين الإسرائيليين في تفسير استمرار نتنياهو في الحرب على غزة بفائض من الوحشية ونسف مبادرات التفاوض أو التهدئة بكونه محاولة هروب من الهزيمة الشخصية المرتبطة بالإخفاق العسكري والسياسي لحكومته، أما الإمعان في ارتكاب الجرائم والمجازر اليومية في حق المدنيين فهو من تجليات حالة الفشل العسكري والهزيمة السياسية التي يحاول تأجيلها.
وبعد حل مجلس الحرب والخلافات بين أعضاء الحكومة يعمل بنيامين نتنياهو على عرقلة أي اتفاق للتوصل إلى صفقة تبادل مع المقاومة وإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف المدنيين لتحقيق تنازلات أكبر من المقاومة التي فشل في اجتثاثها كأحد أهداف الحرب الأربعة التي لم تتحقق، وأملا في الحصول على تنازلات مماثلة من إدارة الرئيس جو بايدن خلال زيارته المرتقبة إلى واشنطن أو انتظار الانتخابات الأميركية على أمل صعود دونالد ترامب.
ويُوصف نتنياهو -الذي يقود ما باتت يعرف في إسرائيل بـ"حكومة الفشل" وتتدهور شعبيته بشكل مطرد- بأنه الرجل الذي قاد إسرائيل إلى "الهزيمة الأكبر في تاريخها"، وفق الباحث والأكاديمي الإسرائيلي زئيف معوز.
ويشير معوز أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا في مقال بصحيفة هآرتس (عدد 10 أيار/ مايو 2024) إلى أن الهزيمة الأكبر في تاريخ إسرائيل هي حرب غزّة، والتي ستسجل إلى الأبد بكونها الهزيمة الأكثر خزيا في تاريخنا، دون أن نأخذ في الحسبان فضيحة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 العسكرية.
ويمثل انكشاف الجيش الإسرائيلي وضعف قدراته المعنوية والتخطيطية وانكسار معنوياته والصراعات بين قادته التي أدت إلى خلافات سياسية ومجتمعية حادة بوادر هزيمة بالحسابات الإستراتيجية وبحسابات الصراع الطويل المستمر، وحتى بحسابات المعركة الجارية التي يحاول نتنياهو خلالها تجنب مصير محتوم، وفق الكاتب زئيف معوز.
ويقول معوز "من الناحية العسكرية لا يهم كيف ومتى سينتهي القتال، هُزمنا بشدة، نحن مسؤولون عن كارثة إنسانية ضخمة في ظل واقع تحيط به عزلة دولية عميقة ومتزايدة، في حين أن الإنجاز الوحيد الذي يمكن أن نلاحظه هو بقاء سلطة نتنياهو وعصابته".
ويعتقد مراقبون ومحللون كثيرون في إسرائيل -وبينهم الكاتب دوغلاس بلومفيلد (صحيفة جيروزاليم بوست عدد 18 يوليو/تموز 2024)- أن نتنياهو يقاتل فقط من أجل البقاء في السلطة، وهو"يطيل أمد الحرب بشكل مأساوي وغير ضروري، لأنه كلما طال أمدها تمكن من التمسك بالسلطة وتجنب العودة إلى المحكمة لمواجهة 3 محاكمات فساد منفصلة".
وقد خلق نتنياهو بذلك أزمة سياسية وأمنية خطيرة، والتي فرضت ثمنا باهظا في الأرواح البشرية والتدهور الاقتصادي والأضرار الجسيمة بمكانة إسرائيل الدولية، فقد أصبحت اليوم دولة منبوذة وتحاكم أمام محكمة العدل والجنائية الدولية، وفق تعبيره.
وإضافة إلى القضايا الداخلية يجد نتنياهو نفسه متورطا في دعاوى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية، وهي من الأسباب التي تجعله يماطل في الموافقة على مبادرات وقف إطلاق النار والصيغ المطروحة للصفقات حفاظا على بقائه في السلطة.
وأدت حسابات نتنياهو التي يحاول من خلالها إنقاذ نفسه إلى توريط إسرائيل وجيشها في حرب طويلة لا تملك ما يؤهلها للاستمرار فيها، مع انحسار الدعم الغربي نسبيا، في حين بدأت عوامل التفوق تتآكل، وثبت ضعف الجيش الإسرائيلي في المعارك، وسقطت سردية "الجيش الذي لا يقهر".
ويمثل نتنياهو مجرد عنصر يعبر عن انكشاف ضعف الإدارة السياسية والعسكرية والشروخ في الهوة المجتمعية والتصدعات الكثيرة التي تسببت بهزيمة لم تلحق به شخصيا بل بمشروع إسرائيل نفسها وهو يبحث عن حبل نجاة في "نصر ما" بغزة لم يتحقق طوال 10 أشهر، في حين بات إحساس الهزيمة يسري في المجتمع.
حين تلد ثقافة الهزيمة
لم تعد مفاجأة "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي هي العنوان الأبرز للهزيمة، ويشير محللون إسرائيليون إلى أن الارتباك في الحرب على غزة خلال الأشهر الماضية وتوسّع جبهاتها وتراكم خسائرها فجّر صراعات داخلية كانت مكتومة وولّد حالة إحباط وتشاؤم أعمق وأشد تتعلق باستمرارية المشروع ذاته لا الدولة، ونشأت حالة أقرب إلى ما تعرف بثقافة الهزيمة التي تشكك في مشروع الكيان الإسرائيلي ذاته.
وإضافة إلى تقديرات بهجرة نحو نصف مليون إسرائيلي فعليا يُظهر استطلاع جديد للرأي أجراه معهد سياسة الشعب اليهودي في يوليو/تموز 2024 أن واحدا من كل 4 إسرائيليين ينوي مغادرة إسرائيل والهجرة إلى دولة أخرى إذا أتيحت لهم الفرصة، مما يعكس حالة الخوف والقلق العام وانعدام الثقة في القيادة السياسية والجيش وعدم اليقين في ما يخبئه المستقبل.
وتشير هذه الحالة غير المسبوقة إلى تصدع البنيان الإسرائيلي جراء هجمات المقاومة والفشل العسكري الإسرائيلي الذي نجمت عنه حركة نزوح هائلة من مستوطنات الشمال والجنوب، والصراع السياسي المغلف بالأبعاد العرقية والدينية والطبقية، وانهيار مقولة الجيش يحمي الشعب، وانعدام الإحساس بالأمان، والانكماش الاقتصادي، مع استفحال البطالة وتراجع الدخل، وتآكل التأييد الدولي وانحسار الغطاء الأميركي، بالإضافة إلى تعدد جبهات الرفض والمقاومة ضد إسرائيل.
ويرى مؤرخون ومحللون أن عملية تشكيل الكيان الإسرائيلي بنيت على فكرة استيطانية استعمارية إحلالية كان هدفها إلغاء حضارة وثقافة الشعب الفلسطيني وتصفية وجوده بشتى الأساليب، ويستند هذا التشكيل أساسا إلى العامل الديمغرافي المرتبط بإغراء هجرة اليهود الكثيفة إلى إسرائيل، والتي باتت عكسية.
وقد اعتبر ديفيد بن غوريون (أول رئيس وزراء لإسرائيل) أن "انتصار إسرائيل وبقاءها يتوقفان فقط على توفر عامل واحد هو الهجرة الواسعة إلى إسرائيل"، لكن هذا "الانتصار" بات يتحول إلى خسارة بضغوط الحرب على غزة وتداعيات الهجرة العكسية الواسعة التي تضرب مقولة الاستقرار على الأرض، وهي أساس نجاح مشروع الكيان الإسرائيلي واستمراره.
وفي تشكل ثقافة الهزيمة تأتي عودة النبوءات والمقولات القديمة بزوال إسرائيل، والتي تفجرت بعد هجوم المقاومة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وتداولها على نطاق واسع من قبل نخبة من المثقفين والساسة الإسرائيليين مثل آريه شافيت أو إيهود بارك تعبيرا عن الإحساس بالهزيمة أو حالة عدم اليقين في المستقبل.
وفي هذا السياق، يرى المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه أن حالة الخوف والانقسامات الأفقية والعمودية التي كشفتها الحرب في المجتمع الإسرائيلي وجيشه وقيادته تمثل "بداية نهاية المشروع الصهيوني"، والتي يعتبرها "مرحلة طويلة وخطيرة، لكن يجب أن نكون جاهزين لذلك".
من جهته، يعبّر الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي في مقال بصحيفة هآرتس عن خطورة تداعيات "طوفان الأقصى" ثم مجريات العدوان على غزة في تصدع بنية المجتمع الإسرائيلي بقوله:
إن عمليّة التدمير الذاتي والمرض السرطاني الإسرائيلي بلغا مراحلهما النهائية، ولا سبيل للعِلاج بالقبب الحديدية ولا بالأسوار، ولا بالقنابل النوويّة
ويرى الكاتب سامي بيرتس في صحيفة هآرتس (عدد 15 يوليو/تموز 2024) أن ما يحصل هو "النتيجة المباشرة لقتال رئيس الوزراء من أجل البقاء السياسي، وبالتالي اختيار شركاء خطيرين ومدمرين"، في إشارة إلى الأحزاب اليمينية المتطرفة في الحكومة، والتي تكثف الضغوط على نتنياهو للاستمرار في الحرب.
وليس نتنياهو نشازا مقارنة بغيره من السياسيين الإسرائيليين في تطرفه وتنكره للحقوق الفلسطينية، وهم لا يخالفونه كثيرا في وحشية ما يرتكبه في غزة، لكنه بجرعات تطرف أكبر وبهواجسه ومخاوفه الشخصية وحساباته الخاطئة وسّع الشروخ في بنية المجتمع الإسرائيلي والدولة وعمّق أسئلة الهوية والمستقبل والوجود، وتلك بوادر هزيمة إستراتيجية إن لم تكن هزيمة كاملة بحسابات مستقبل الصراع.
المصدر: الجزيرة نت