تجلس سعاد الحناوي قرب باب خيمتها على كرسي مع كل إشراقة صباح، وتمسك بيدها هاتفها المحمول لعلها تحصل على بصيص أمل برسالة أو مكالمة تدل على مكان زوجها أحمد التي فقدت أثارة في مواصي رفح جنوبي قطاع غزة قبل نحو شهر.
وفي 26 يونيو الماضي، توغلت دبابات الاحتلال بشكل مفاجئ في منطقتي "فش فرش والشاكوش" ضمن منطقة المواصي غربي رفح التي زعم جيش الاحتلال بأنها آمنة، ما أجبر آلاف العائلات الفلسطينية للنزوح تحت القصف وإطلاق النار، وترك خيامهم إلى مناطق أخرى في مواصي مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة.
شدة القصف فرقتنا
الحناوي التي بات الإرهاق والألم واضحان على ملامح وجها تروي لـ"الرسالة"، تفاصيل ما حدث معها خلال تواجدها برفقه عائلاتها في مواصي مدينة رفح، قائلة :" بعد تهديد الاحتلال باجتياح المدينة انتقلنا من منطقة الطيارة، لما يعرف بمطقة الشاكوش كونها مناطق آمنة وفق مزاعم الاحتلال".
وتضيف التي تبلغ من العمر 23 عامًا:" في صباح يوم الجمعة 29 يونيو تفاجأنا بتوغل دبابات الاحتلال للمنطقة التي نتواجد بها تحت القصف المدفعي وإطلاق النار.. سقطت عدد من القذائف بجوارنا فاستشهد عدد من النازحين كانوا بجوار خيمتنا وأمتلأ المكان بدخان القصف".
تتابع الشابة الحناوي والدموع تنهمر من عينيها:" لأكثر من ساعة والقصف وإطلاق النار لم يهدأ، فتفرقت العائلة والكل بدأ يجري من شدة القصف والخوف كما باقي العائلات النازحة بالمكان.. بعد مسافة من الجري استطعت رؤية والد زوجي يجلس على رصيف الشارع وبرفقته عدد من أبنائه الصغار".
صدمة الفراق
تكمل الحناوي حديثها بعد أن توقفت عن الحديث من شدة البكاء، قائلة: "بدأت أصرخ أين أحمد.. ما شفت أحمد.. زوجي وين راح شو صار فيه.. لكن سرعان ما أجاب والد زوجي بأنه لم ير أحمد بعد أن سقطت القذائف بجوارهم وتفرقت العائلة".
وتقول الشابة سعاد:" وقفت في منتصف الطريق وأنا أنظر في وجوه النازحين الذين يفرون من مناطق القصف لعلي أجد أحمد بينهم.. انتظرت لساعات حتى غروب الشمس ولم يطل أحمد.. ثم انطلقت برفقة والد زوجي للنقاط الطبية للبحث عن أحمد فلم نجده بين المصابين أو الشهداء حتى هذه اللحظة".
وتكمل سعاد التي تزوجت من أحمد قبيل حرب الإبادة على غزة بثلاثة أشهر حديثها:" توجهت للصليب الأحمر ولم أجد جوابًا.. منذ شهر وأنا أعاني من الآلام لا أعرف مصير زوجي هل هو على قيد الحياة أم استشهد، هل اعتقله الاحتلال أم أعدمه".
حال الشابة سعاد التي فقدت زوجها كباقي آلاف العائلات الفلسطينية التي فقدت أبناءها سواء تحت ركام المنازل التي تعرضت للقصف أو خلال التوغل البري المفاجئ في المناطق التي ادعى الجيش (الإسرائيلي) إنها آمنة خلال حرب الإبادة يتعرض لها قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023.
فآخر جرائم الاحتلال ضد النازحين المدنيين قبل أسبوع، بعد أن أجبر مئات آلاف العائلات الفلسطينية النزوح من مناطق شرق خانيونس إلى غربها، تحت القصف ما أسفر عن استشهاد العشرات وفقدان أخرين، ثم أجبرهم للنزوح مرة أخرى لأماكن أخرى.
مصيرهم مجهول
ومع اشتداد حرب الإبادة على غزة، باتت معظم العائلات الفلسطينية تحمل في طياتها قصصًا من آلام الفقدان والنزوح والدمار، في ظل فقدان آثار حوالي 3000 فلسطيني بعد أن تم اعتقالهم ولم يعرف مصيرهم بعد، وأكثر من 20 ألف شخص في عداد المفقودين تحت الأنقاض في غزة، وفق الإحصائيات الرسمية.
فالشاب صالح الدهشان، الذي نزح إلى منطقة دير البلح وسط القطاع، لا يزال يجهل مصير شقيقة رائد، الذي فقدت أثارة خلال اقتحام جيش الاحتلال مجمع الشفاء الطبي في نهاية شهر مارس العام الحالي.
ويقول الدهشان، الذي يبلغ من العمر 32 عامًا، : أجهل مصير شقيقي.. لا أعرف هل هو شهيد أم أسير لدى قوات الاحتلال، بعد أن قصفه الاحتلال في أحد المنازل القريبة أثناء النزوح من مجمع الشفاء وأصبح تحت الأنقاض".
ويضيف الشاب صالح في حديث لـ"الرسالة"، :" توجهت لكثير من المؤسسات الحقوقية، مثل الصليب الأحمر، لكن لم أجد أي إجابة تشير إلى مصير شقيقي". ويتابع " آخر تواصل مع أخي كان أثناء اقتحام مستشفى الشفاء ومحاصرة النازحين بداخله، وبعدها انقطع الاتصال به".
آلاف المفقودين
وينشر أهالي المفقودين على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بشكل يومي، صور أبنائهم الذين فقدوهم سواء خلال القصف أو اقتحام الاحتلال للمناطق التي نزحوا إليها، وكلهم أمل أن يتوصلوا لطرف خيط يدلهم على أبنائهم، فالنار تحرق قلوبهم كل يوم.
ولا يوجد إحصاء دقيق لأعداد المفقودين، بسبب انهيار جزء كبير من المنظومات الإدارية الفنية وانقطاع الاتصالات وتشتت العائلات واستمرار عدوان الاحتلال على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر العام الماضي.
ويتوزع المفقودون بين أشخاص ما زالوا تحت أنقاض المنازل التي قصفها جيش الاحتلال على رؤوس ساكنيها، وأفراد استشهدوا في الشوارع بدم بارد وما زالت جثامينهم ملقاة فيها، إضافة إلى من اعتقلهم الاحتلال سواء أثناء النزوح أو في مناطق التوغل ولا يعرف مصيرهم لأن الاحتلال أعدم بعضهم ويخفي مصيرهم وأماكن احتجاز البقية وهم بالآلاف.
من جانبه، أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن تقديراته تشير إلى أن عدد المفقودين جراء الحرب في قطاع غزة تجاوز 13 ألفا، وإن بعضهم ما زال تحت الأنقاض، أو دفنوا في مقابر جماعية عشوائية، أو أخفوا قسرا في سجون ومراكز اعتقال الاحتلال، وبعضهم تعرض للقتل داخلها.
أهالي المفقودين بالحرب يتقلبون بين معاناة الفقدان وأمل العودة
الرسالة نت - خاص الرسالة نت