خاص| الحاج سعدي بركة.. حفار القبور في غزة

الرسالة نت

 يرص مكعبات الأسمنت حول القبر، يفرد التربة كيفما اتفق، لقد استغرق هذا الدفن كثيرا من ساعات النهار، ولا يرى العم سعدي بركة نهاية لهذا اليوم، لا يستطيع حساب الوقت الذي سيأخذه دفن كل هؤلاء الشهداء، أم وأب، وكثير من الأبناء، وأحفاد، يحمل كل منهم في جيبه حلما، ويغوص به تحت الأرض.

بدأ برص النساء أولا، سبعة عشر امرأة حامل، بنات عم، كنائن، حفيدات، ينظر إلى أكفانهن، وهو يتخيل كيف كن مجتمعات قبل ساعات، تزين كل منهن للأخرى حلمها، ويكررن بين الجملة والأخرى، نوايا التحقيق، ويختمن الكلمات بـــــ"عندما تنتهي الحرب".

هكذا حكى العم سعدي بركة عن عائلة الطباطيبي الذي دفن منهم سبعة وأربعين شهيدا، بينهم ستة عشر امرأة حامل، يكمل: "كنا ندفن الشهداء فوق بعضهم البعض، نضع قبرا فوق قبر، كانت المقبرة تمتلئ بالمعزين، والسائرين في الجنائز، اليوم تسير الجنازة بأعداد قليلة، يدفنون شهيدهم ويذهبون".

يمسح العم سعدي جبينه، لقد انتهى من رص القبور، يبلل جفاف حلقه برشفة ماء، ويأخذ نفسا متقطعا، يدل الرجال المعاونين له على الطريقة الصحيحة للدفن:" أدره نحو القبلة يا بني، لا تحمل جسد الفتاة، يمكنك أن تنادي على أحد من محارمها ليحمل الجسد" ثم يستأثر هو حمل الجسد مقلدا نفسه منصب الأب، فلا محارم باقون، رجال هذه القبيلة كانوا ينتظرون دفنهم في الأكفان، يضيف :" كل الذين دفنتهم أطفال ونساء، دفنت تسعة عشر ألف شهيد، معظمهم نساء مقطعات وأطفال، أنا لم أعد أنام الليل ".

يقوم من جلسة راحته، يزيح الأجساد إلى جانب بعضها، كلها نحو القبلة، يبدأ بعد جثث الرجال، شباب دون العشرين، وأولئك في الثلاثين، وهذا الذي لم يدخل حيز الكهولة لا زال في الخمسين، وهذه العصافير الصغيرة، سيكون كل منهم بجانب أمه، يطلب من الحاضرين أن يدلوه على أمهات الأطفال، فيخبره الرجال بأنهم لا يعرفون، كما أن أجساد الأطفال غير مكتملة، وليس للأجساد الممزقة المختلطة اللحم، إلا دفن جماعي في قبر واحد.

يبتسم الحاج سعدي، يغمض عينينه طويلا، ويشهق، يعرف أنه لن ينام هذه الليلة، قهرا ربما أو خوف، لم يعد يعرف تحديد أسباب الأرق، لقد حفر الكثير من القبور هذا النهار، وغطى الكثير من الأجساد، وضم الكثير من الأشلاء وهو يحمل أكفانها المبقعة بالدماء، لكي لا تسقط قطعة فتضيع في زحمة الموت!!.

يقول مشيرا للاحتلال:" قصة هؤلاء القتلة ليست مع القادة الذين يدعون أنهم هدفهم من هذه الإبادة، أنا لم أدفن مقاومين، كل من دفنتهم أطفال ونساء، مشكلة هؤلاء في القضاء على الشعب، وليس القضاء على المقاومة، يريدون أن يقضوا على الشعب الفلسطيني كله".

يعلم حفار القبور أنه في هذه اللحظة على يقين كلمات الموت والمواساة لم تكتب للفلسطيني، ولم يتخيل صاحبها بأن يهدم البيت الذي بناه هؤلاء فوق رؤوسهم قبل الموت، وبأنهم أصحاب حظ سعيد، لأن قصصهم انتهت في قبر بعد أن أضاعت الأرواح طريق الجسد، ولم يعد يكفي حفار قبور واحد ليحصي عددها، هناك من تناثرت أجسادهم، وحولتها الريح إلى نسائم، أو ذرات لا ترى بالعين المجردة.

لم يكن العم أبو سعدي محظوظا كفاية، أي حظ هذا الذي يدفعك بأن تعمل حفار قبور في غزة، حيث المقابر تزداد حتى تتفوق على البشر، تحت البيوت، وفوق الأرصفة، وبين الخيام، وبجانب المقهى، وتحت عجلات الدبابات، حينما يفقد الموت حرمته إلى هذه الدرجة، ويتناثر الموتى بين الأرجل، فأي مهنة هذه التي امتهنها؟!

البث المباشر