الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، تكبيرات متتالية كان يسمعها الطفل وسيم ماضي وهو غائب عن الوعي، يعتقد أن هناك من يكبر ويصلي بجانبه، ولم يكن يعرف أن تلك التكبيرات هي صلاة الجنازة عليه وتلك كانت جزءا من المشهد، ومنتصف القصة الطويلة التي تعرض لها الطفل.
"كنت في المدرسة ألعب بالدراجة، قصفت مدرسة أبو حسين التي كنت قد لجأت إليها مع والدي وشقيقتي، وركضت إلى باب الصف، ثم أطلقت الطائرات ضربة أخرى بترت فيها قدمي، وسحبوني على عربة يقودها حمار، فقصفت العربة، وأصبت إصابة أخرى، واستشهد والدي، حملوني وذهبوا بي إلى عيادة بيت الخير في غزة، بتروا ما تبقى من قدمي هناك دون مخدر لأن المخدر لم يكن متوفرا".
حُوِّل الطفل وسيم إلى مستشفى المعمداني دون مرافق، بعد استشهاد والده محمد ماضي ونزوح أمه إلى الجنوب ليخوض تجربة الموت لمرات عديدة، ثم يعود في نهايتها إلى أحضان أمه.
وفي المستشفى طفل مسجى، وضعه صعب، دخل في غيبوبة، ثم استشهد، أو هكذا ظن الأطباء مع قلة الإمكانيات وكثرة الجرحى والشهداء؛ لم يستطيعوا التأكد من وفاته.
كفنوه وأعلنوا خبر استشهاده تحت اسم " طفل مجهول الهوية"، حيث لم يتعرف أحد على هويته وقد كان من تبقى في المدرسة قد نقلوا خبر استشهاده إلى والدته في الجنوب، ظنا منهم بأنه قد مات.
ثم في يوم الدفن، مدد الطفل إلى جانب شهداء كثر، جميعهم مكفنين، وحينما سمع وسيم صوت الصلوات والتكبيرات فتح الكفن، فصرخ الناس، وصرخ الطفل، ونقل فورا إلى غرفة العمليات في محاولة لإنقاذ جسد اعتقد الجميع قبل دقائق بأنه قد رحل.
لم تنته حكاية الطفل العائد من الموت عند قصة الكفن، بل امتدت إلى موت وحياة رغم محاولات الاحتلال حيث واشتدت الصعوبة حتى اجتياح الجنود مستشفى المعمداني ودخلو إلى غرف المرضى، وجدوا وسيم ممددا وبحالة الخطر، ولكنه كان واعيا لما يدور حوله من أحداث، بقدم مبتورة، وفقدان للذاكرة، طفل مجهول الهوية، الشظايا تملأ رأسه.
نظر إليه الجنود وقال أحدهم للآخر:" ريحه"، ولكن الطفل لم يفهم، طلب منهم الماء ليشرب، فسكبوا الماء فوقه ساخرين منه، بل وبصقوا عليه، ثم أطلق الجندي النار عليه مستهدفا صدره، وبعد انسحاب الجنود، جاء الأطباء ، ثم نقلوه إلى غرفة العمليات من جديد وانقذت حياته.
بقدم واحدة، تماثل الصغير إلى شفاء جزئي، ومن صورة تناقلها مواطنون عبر شبكات التواصل تعرفت أمه عليه، وعرفت بأنه حي يرزق، ثم نزح مع شقيقته في شهر يليو وهي تجره وتساعده على السير بعكازين لا يستطيع استخدامهما.
وحتى في طريقه تلك لم يكن الرصاص رحيما، فقد أطلق الجنود أيضا الرصاص على طفلة تجر شقيقها الطفل لتنجو، ولم تصل الرصاصات المتناثرة حولهما، وأكمل الطفلين طريقهما، وكانت قصة نجاتهما هي الأعجوبة!
قصة يمكنها أن تكون دليلا آخر على همجية الاحتلال ، وأخلاق جنوده، وتثبت أن الأطفال هم الهدف الأول في هذه الإبادة!
في الخيمة يرقد وسيم، ويحاول التكيف والسير على عكازين، ولا يستطيع الجسد الصغير العودة إلى حياة طبيعية، الخوف يسكن عقله مختلطا بذكريات الدماء، ووالد مسجى أمامه وتجارب كثيرة لم تعد الذاكرة قادرة على استيعابها، "فاقد للتركيز والذاكرة، وخائف طوال الوقت" حسب ما قالت أمه.
بحروق في جسده، وقطب في فكه، وكسر في قدمه السليمة و شظايا في رأسه، وذكرى لسخرية الجنود منه، وسكب الماء عليه، والبصق في وجهه قبل أن يطلقوا رصاصة تحدتهم أيضا ولم تقتله، يقف وسيم على عكازيه، ليحاول اللعب مجددا مع أطفال المخيم بقدم واحدة.
يرفض وسيم أن يقدم أي رسالة للعالم، لا يريد أن يطلب من أحد أن يساعده، قالها مسبقا إنه يريد أن يلعب كما الأطفال، ولا يريد أن يعيش على كرسي متحرك، ولم يستمع له أحد، ويبدو أن هذا العالم لم يعد يريد أن يسمع المزيد عن أهالي غزة، لكن أطفالها مصرون على الحياة واللعب رغم محاولات الاحتلال.