منذ اللحظة الأولى لاندلاع حرب الإبادة المتواصلة على قطاع غزة منذ أكتوبر الماضي، حملت قيادة الاحتلال السياسية والعسكرية، يتصدرها في ذلك رئيسها المجرم بينامين نتنياهو، شعارا واضحا يتمثل في "القضاء وإبادة حركة حماس، وحكمها في قطاع غزة".
بقي ذلك الشعار ملازمًا للخطاب السياسي والعسكري في تحديد الأهداف الإسرائيلية بالحرب؛ ليرصد التقرير ماذا حققّ الاحتلال من أهدافه، وهل فعلا نجح في إبادة الحركة تحديدا في منظومة الحكم بالقطاع.
بالعودة لعام 2006، توسدّت حركة حماس الوزارة للمرة الأولى بعد فوز كاسح حازته في الانتخابات التشريعية الثانية في تاريخ السلطة الفلسطينية التي نشأت عام 1994 بموجب اتفاق أوسلو؛ ذلك الاتفاق الذي أخذت الحركة على عاتقها؛ إنهائه من داخل أحشائه، بعدما عارضته لسنوات طويلة من خارجه.
فوز حماس شكلّ صدمة عميقة في أوساط المراقبين؛ الذين أخذوا تقديرا مبدئيا من استطلاعات الرأي آنذاك، أن الفوز لن يمنح حماس كثيرا من المقاعد؛ لتفاجئهم بما سميّ وقتها أمريكيا واسرائيليا وإقليميا بـ"تسونامي حماس".
نتائج الفوز، تمثل في تشكيل وزارة اصطلح عليها بالوزارة العاشرة في تاريخ السلطة؛ يرأسها رئيس الوزراء الأول المنتخب في تاريخ السلطة الشهيد إسماعيل هنية؛ الذي بقي محتفظًا بلقب رئيس الوزراء المنتخب؛ لحين تنازل طوعا عام 2014 في اتفاق سمي اتفاقية الشاطئ؛ في موقف تاريخي اتخذته حماس؛ لتحقيق المصالحة الفلسطينية الداخلية، بعد انقسام عميق رافق نشوء وولادة الوزارة.
فحماس لم تنشأ وزارة في ظروف طبيعية؛ بل في أجواء أمنية وسياسية فلسطينية داخلية خانقة؛ قادت في المحصلة داخليا لحدوث حسم عسكري قادته الأجهزة الأمنية للحركة؛ لوضع حد لمسار أمني متمرد؛ ترافق مع حملة استهداف إسرائيلية مركزة على مواقع الحكومة عرفت آنذاك بمصطلح "المحارق" التي استمرت بين عامي2006 و2007م.
شكلّت تلك المحارق اختبارا لمسار الحركة في العمل الحكومي، وإن كانت ستغلب الأخير على فكرة الرد والانتقام للمجازر الإسرائيلية، خاصة بعد مشهد دوّت أسماعه شاشات الفضاء، وطفلة صغيرة تدعى هدى غالية تصرخ بجوار جثمان والدها "يابا يابا".
إجابة حماس لم تتأخر كثيرا؛ فأخذت قرارا ميدانيا مثلّ متغيرا استراتيجيا مهما في مسارها؛ إذ اتخذت الحركة للمرة الأولى قرارا بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من غزة في صيف 2005، بتنفيذ عملية أسر جنود في الداخل المحتل والاحتفاظ به، قرار وجهت فيه الحركة ضربة مزودجة، تمثلت في تحقيق رد أولي على مجزرة أبو غالية، وثانيها خوض غمار القرار الاستراتيجي للحركة.
قرار دفعت حماس بموجبه ثمنا غاليا على صعيد حكمها، إذ اعتقل العدو نوابها ليفقدها الأغلبية البرلمانية، وبذلك شطب عمليا نتائج فوز حماس في المجلس التشريعي، وشلّ وجود الحركة الحكومي في الضفة المحتلة، إضافة لاستهداف ما تبقى من مرافق ومنشآت حكومية في القطاع.
الثمن كان يعني من الناحية العملية خسران حماس لنتائج فوزها في الانتخابات التشريعية؛ وكانت فاتحة لحرب هدفت استئصال الحكم نهائيا للحركة عام 2008، وكان الهدف الرئيسي المعلن آنذاك لحكومة أولمرت.
استمرت حماس في حكمها لسنوات متتالية؛ بل وعقود، وبقيت تمسك بمقاليد الحكم، خاصة مع رفض السلطة الفلسطينية تسلم مقاليد الحكم في القطاع، رغم ما قدمته حماس من تنازلات في هذا الصدد؛ وبقيت الحركة تعيش في دائرة "الغرق ما دون الأنف"، وهي استراتيجية كشفت عنها إسرائيل بجلاء في زمن وزير الحرب الصهيوني السابق افيغدور ليبرمان.
بقيت هذه الاستراتيجية تلازم الموقف السياسي والإسرائيلي في التعامل مع حكم الحركة، إبقاء حصار مشدد خانق دون قدرة الحركة على تجاوز أغلاله وقيوده، باستثناء ما يجعل الناس يعيشون ظروف يومهم فقط، حتى العام 2023، الذي شهد العالم فيه طوفانًا غرق الاحتلال فيه مرتين، أولهما حين فقد ذراعه الجنوبية بخسرانه لواء غزة، وثانيه بانزلاقه في وحل أعقد وأطول معركة يخوضها منذ وجوده قبل 77 عامًا، تتسع رقعتها يوما بعد يوم.
تبعا لما لهذا المشهد، لخص نتنياهو هدفه الرئيسي إبادة حماس، وفق ما وصفه في الخطاب الذي أعقب العملية، ثم عاد ليقلص الهدف، "القضاء على حماس"، ثم عاد بعد أشهر؛ ليتحدث "القضاء على قدرات حماس"، ثم عاد ليتحدث "ضمان عدم عودة حماس"، أخيرا صرّح "إجبار حماس بعدم العودة".
تقلص الأهداف السياسية، تعبر بوجهة نظر استراتيجية عن اعتراف ضمني وصريح بفشل الهدف الرئيسي المعلن، خاصة وأن ترجمته واقعيا تمثل في ثلاثة مسارات، أولها القضاء على المنظومة الحكومية وقطاعات الحكومة، وثانيها محاولة إيجاد بدائل عشائرية وشعبية أخرى، وثالثها تكليف جهات دولية للقيام بمسؤوليات وجميعها فشلت.
عشائريا، دفعت إسرائيل عديد المؤسسات الدولية لعقد لقاءات مع العشائر وممثلي بعض العوائل؛ تحت ذريعة حماية المساعدات؛ بعدما استهدفت بشكل مركز عناصر لجان الحماية الشعبية، واستهداف الأجهزة الشرطية بطبيعة الحال.
ثم دفعت بضباطها للقاء شخصيات محسوبة على بعض العوائل؛ لتشكل روابط في مناطق منفصلة، وفقًا لتتبع مسار محاولات السيطرة الإسرائيلية على المنطقة الشمالية تحديدا؛ التي جعلتها مسرحا للعمليات القتالية، بعدما هجرّت مئات الآلاف منها تحت وقع الأحزمة النارية.
لم تنجح المحاولات السابقة، بعدما أوصدت العشائر الطريق بشكل كامل عليها، وتأكيدا أنها جزءًا من المقاومة، فلجأت للاستعانة بجهاز المخابرات برئاسة ماجد فرج ليأتي بأشخاص من ضباط الجهاز في المحافظات الشمالية تحت غطاء حماية المساعدات، وهي خطوة أعلنت الفصائل والقوى رفضها لها بالمطلق بعدما جرى الكشف عنها، وباءت أيضا بالفشل.
هذه المحاولات، جاءت بعد استهداف الاحتلال ل210 مقرا حكوميا وتدميرها بشكل كامل، واستهداف رموز العمل الحكومي من وكلاء، من بينهم إيهاب الغصين وكيل وزارة العمل في اللجنة الحكومية بغزة، وعبد الفتاح الزريعي وكيل وزارة الاقتصاد، واضافة لاستهداف رؤوساء البلديات واستشهاد عدد منهم بينهم اياد مغاري رئيس بلدية النصيرات، وشخصيات حكومية أخرى.
واستهدفت قيادات الأجهزة الأمنية والصف القيادي في الوزارات والأجهزة؛ التي تعمل على إدارة العمل من مفاصل وشخصيات قيادية، وعملت أيضا على استهداف مواقع تواجدها، بما في ذلك مناطق النزوح، وتدمير المؤسسات المدنية بزعم وجودهم بها.
كما دمرت جميع المرافق والمنشآت والبنية التحتية للأجهزة والمؤسسات والوزارات، وفرضت حظرا كبيرا على ادخال المواد التي تساعدها في تنفيذ مهامها الإنسانية.
هنا يشرح مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة، طبيعة الحرب الإسرائيلية التي استهدفت قطاع الحكومة، ممثلا بـ15 قطاعا من قطاعات الحكومة.
الاستهدافات التي طالت القطاعات تمثلت في 3 مسارات، استهداف المقار الحكومية من جهة، والقائمين عليه من جهة ثانية، والفئة المستفيدة من جهة ثالثة، تبعا لحديث الثوابتة لـ"الرسالة نت".
لكنّ تبعا للثوابتة، فإن 18 ألفًا من الموظفين لا يزالون على رأس عملهم، رغم ما تعرض له القطاع من إبادة.
وأوضح أنّ الحكومة لا تزال تقوم بمهامها رغم الملاحقة الدقيقة لقياداتها وكوادرها والعاملين فيها، ولا تزال قادرة على التحدي، وأن الاحتلال بعد عام لم ينل من قدرتها ووجودها، وأن كل ما فعله تمكنت من التعامل معه وتجاوز تداعياته، وأن الشعب الفلسطيني لن يرتضي بالاحتلال ليكون من يحدد مصيره.
وهنا يؤكد عباس زكي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، أن حركته لن تتخذ قرارا يتعلق بشأن غزة ومستقبلها واليوم التالي فيها، الا بتشاور كامل مع حماس، وباتفاق تام معها، وأن ثمة توافقات وطنية كبيرة تجمعهما، وليس ثمة إمكانية لتجاوز الحركة.
يشير زكي لـ"الرسالة نت"، حماس قوية والاحتلال لم يستطع ان ينال منها، وهي حركة فلسطينية وطنية مقاومة، وأن الوضع الفلسطيني لا يحتمل ابدا فرقة الظرف ولا المكان في اليوم التالي؛ "الذي يجب أن يكون فلسطينيا وطنيا خالصا، ولا يجب ولا ينبغي ولن نسمح كفلسطينيين أن يكون بمنظور إسرائيلي أو امريكي".
ويشددّ زكي، على ضرورة دعم الموقف السياسي والميداني للمقاومة، فلا يجب أن تكون مكشوفة الظهر.