خطوات بسيطة في شارع من شوارع مواصي خانيونس أو سوق دير البلح أو النصيرات أو البريج كفيلة بإثبات أن المجاعة لم تعد تطل برأسها فقط، بل إنها أضحت تطل برأسها وعينيها وثقلها وحصارها وإطباقها على جنوبي قطاع غزة.
غياب واضح للمواد الغذائية الأساسية من البسطات الشعبية الممتدة في شوارع هذه المناطق، لا طحين، لا سكر، لا أرز، ولا حتى المعلبات التي كان النازحون يستلمونها كمساعدات إنسانية سابقًا، وإن وجدت لدى بعض التجار فبأسعار تفوق إمكانيات الجيب وحدود الخيال.
جولة سريعة أجرتها مراسلة (الرسالة نت) في سوق منطقة أصداء بمحافظة خانيونس جنوبي القطاع، تلك المنطقة التي كانت دومًا بوصلة النازحين لشراء كل ما يلزمهم، وتشهد ازدحامهم في الطرقات طوال النهار، لكنها الآن لم تعد تغري النازحين بالذهاب إليها، فليس فيها سوى بسطات فارغة إلا من بعض السلع البسيطة والمحدودة.
قابلنا (أم كريم) التي وقفت بعيون حائرة تراقب البسطات من حولها وتقول: "كنت أعتقد أنني سأجد هنا ما ينقصني، ولكن نفاد أغلب المواد الغذائية صدمني!".
وتتساءل "إلى متى سيبقى هذا الحال؟! هل ينتظر العرب أن نموت جوعًا حتى يطالبوا الاحتلال بفتح المعابر وإدخال البضائع؟!"
غير بعيد عنها، وصلنا صوت آخر، "بكم رطل الطحين؟" يسأل مار باحثا عن طحين.
"25 شيكل" يرد البائع، فيعلق ثالث "ليش من متى صار الطحين ينباع بالرطل؟!" فيجيب السائل الأول "فش طحين بالبلد ربنا يفرجها من عنده".
إلى الواجهة من جديد عاد مشهد تكدس المواطنين أمام بوابات المخابز القليلة التي بالكاد تعمل في محافظات جنوبي القطاع.
في ساعة الظهيرة وقفت (أم محمد) تدافع النساء من حولها في محاولة لحجز دور متقدم بالقرب من بوابة المخبز، تقول "لا يوجد في خيمتي أي طحين، يجب أن أحصل على ربطة خبز، وإلا سينام أطفالي جائعين!!"
وتتابع "انتهيت من استخدام آخر كيس طحين لدي قبل أسبوع، اضطررت لاستخدامه وهو فاسد مليء بالسوس والديدان من أجل إطعام أطفالي!"، موضحة أنها توجهت بعد ذلك للسوق لشراء كيس آخر لكنها عادت بلا شيء!
هي عودة تدريجية للمجاعة تختلف عن سابقتها، ففي المرة الأولى كانت الحرب في شهورها الأولى وكان لدى الغزيين بعض أموال هي (تحويشة العمر) بالنسبة لهم، يحاولون من خلالها تغطية احتياجاتهم، أما هذه المرة فبعد أكثر من عام على الحرب والنزوح وانعدام الدخل وتضييق منافذ الرزق والإنفاق.
يخيم شبح المجاعة على كل مكان، يستذكر الناس ما مر على شمال القطاع لشهور طويلة وثقيلة، تراه سيكون الجنوب على موعد مع ذات الجوع والحرمان؟.