ارتبطت برجل سطع نجمه في تاريخ القضية الفلسطينية ومقاومتها؛ قائدا سياسيا؛ وأمنيا؛ ثم واحدا من أهم نوابها في المجلس التشريعي المنتخب للمرة الثانية في تاريخ السلطة؛ وأول وزير داخلية في عهد حركة حماس بعد فوزها عام 2006؛ (الشهيد سعيد صيام).
أو (الشهيد الوزير) كما يطلق عليه؛ بوصفه أول وزير فلسطيني يتم اغتياله على يد قوات الاحتلال في العام 2008؛ بعدما بدأت الضربة الأولى لهذه الحرب بإبادة مئات من أفراد عناصره الأمنية وقيادات أجهزته؛ في حرب امتدت لـ22 يوما؛ كانت تريد (إسرائيل) من خلالها إبادة حكم حماس؛ وفق ما أعلن عنه رئيس وزراء الاحتلال آنذاك إيهود أولمرت؛ وكانت الحرب التي أعلنتها وزيرة خارجيته تسيبي ليفني من القاهرة.
الشهيد صيام ارتقى آنذاك مع نجله محمد؛ إلى جانب عدد من إخوانه في ذلك الاستهداف؛ حيث كان يقيم في منزل شقيقه بمنطقة اليرموك وسط مدينة غزة.
زوجته (أم مصعب) شاركته كل مراحل حياته، معاناتها المختلفة، فراقه في المعتقلات والمنافي، صبرت إلى جانبه في أحلك الظروف التي عاشها والتي بدأت باعتقاله على يد الاحتلال؛ ثم إبعاده في مرج الزهور بدايات تسعينات القرن الماضي؛ ثم مرحلة نشوء السلطة وما رافقها من اعتقالات على يد أبناء جلدته من السلطة؛ ثم الانتفاضة الثانية ومحاولات مطاردته الدائمة، واستهداف منزله وسيارته مرات عدة؛ ثم مع تكليفه وزيرا للداخلية؛ في أجواء أراد معارضوه خلالها الانقلاب عليه؛ وتشكيل حالة أمنية مضادة للداخلية بغزة؛ ثم وصولا لحرب الفرقان، وارتقائه شهيدا.
أم مصعب التي لم تحصل على استحقاقات زوجها المالية وهو وزير الداخلية الأول في الحكومة؛ إلا قبل عامين فقط؛ وبجهود مضنية؛ وبعد قرار حكومي رسمي بالموافقة، لم ترفع صوتها ولم تطالب، بل لم تأخذ حقها من الظهور كأي امرأة كانت زوجة لرجل من أعظم رجال المقاومة.
بل إنها طيلة عقد وسبع سنوات؛ لم يتسن لها أن تحصل كأي امرأة في مكانها على حق من حقوق زوجها المالية .
صبرت على كل مراحل الحياة الموجعة، وها هي تصبر في حرب الإبادة على الجوع وشبح الموت والخوف المحيط بالعائلة، وقلة الدواء وعدم صلاحية الحياة المليئة بالنزوح والتنقل لامرأة في عمرها، بل يقول بنها: "لقد وصلت لمرحلة صحية خطيرة حينما اشتدت المجاعة على غزة والشمال في يناير الماضي".
بقيت في شمال غزة المحاصر؛ وأعيتها الحروب الكثيرة التي عاشتها وحيدة بعد استشهاد رفيق دربها، وقد ظهرت عليها ملامح الإعياء والمرض؛ ولا تزال تعاند وتسير على نهج ذلك الرجل الذي كانت وصيته واضحة: "قبل ما نكون لبعض؛ احنا انخلقنا نجاهد؛ ممكن أنا استشهد؛ ممكن يجي ولد من صلبنا يستشهد؛ ممكن أحفادنا من ورانا يستشهدوا؛ أنا مستعد لكل الخيارات".
تعلق أم مصعب: "من يومها جهزت نفسي أودع أولادي قبل أن أنجبهم؛ وأودع أحفادي قبل أن تنجبهم أمهاتهم؛ كما كنت مستعدة لاستقبال خبر استشهاد زوجي في أي لحظة؛ كنت جاهزة؛ كان ضايل التوقيت بس".
جاءت اللحظة فعلا التي يزف فيها لأم مصعب، خبر استشهاد زوجها سعيد صيام؛ ليختم بدمائه معركة نزف فيها دم الشعب الفلسطيني لأكثر من 22 يوما؛ وكان برفقته نجلها محمد؛ التي كانت تستعد لتزويجه، ولكنه رحل قبل أن تحقق حلمها، وكانت قد جهزت نفسها بصدر رحب لاستشهادة.
أم مصعب تقول إن بيتها هدم أكثر من مرة؛ حتى باتت تخشى من أن تذهب لأي بيت خوفا من استهداف أصحابه.
وتحكي لنا عن موقف في ذلك السياق: ذات مرة اضطر فيها نجلها البكر مصعب أن ينام على رصيف بجوار بيتهم في شتاء حرب الفرقان عام 2008، كان يستظل بشجرة في شارع العيون تجاه الجلاء؛ لم يكن في الشارع أحد طيلة ساعات الليل؛ وكان فقط وحده برفقة دموعه؛ التي ذرفت حينما ضاقت البيوت عليه وعلى عائلته؛ خشية أن يذهب لأحدهم ويرتقي مع عائلته بسببهم".
لم يكن مشهد الفقد منفردا في غصته؛ بل كانت شاهدة أيضا على فقد ممتد في العائلة، على وجع بناتها! فهي رسالة تتوارثها النساء في غزة. عاشت أم مصعب لترى كيف يودعن فلذات أكبادهن شهداء أيضا.
فبعد سنوات طويلة من تربية الأحفاد؛ تأتي ابنتها لتتعرف على جثة نجلها أمامها، "هذه بلوزته الحمراء" وكان ذلك ليلة استشهاد حفيدها الصحافي حمزة يوسف أبو سلمية.
حمزة الذي عمل في الصحافة والإعلام، مؤمنا بأنها رسالة طاهرة لا يقدر عليها كثيرون في ظل الاستهداف والقتل؛ لكنه أخذ على عاتقه المهمة، وهو المصمم والممنتج المحترف.
ارتقى حمزة نجل ابنة أم مصعب، بعد ساعات قليلة فقط من ذهابها لمواساة شقيقة زوجها الشهيد سعيد صيام ( الحاجة أم بلال أبو طاقية) التي ارتقى نجلها بلال باستهداف قبل أيام؛ بعد سنوات أيضا من وداعه لطفلته شهيدة في أحد الاستهدافات الإسرائيلية للقطاع.
تعلق أم مصعب: "هذا طريقنا اخترناه، وعارفين أوجاعه؛ لكننا مؤمنين بأن أجر الآخرة لا يوهب هبة؛ بل يؤجر فيه الناس لصبرهم؛ إحنا ما أخدنا دنيا لكن والله بدنا الآخرة، وبدنا نعيش مع أحبابنا في جنات الله".
بهذه الروح تودع الحاجة أم مصعب حفيدها، وتودع أيضا ابن شقيقة زوجها، وتختم بالقول: "ليس لدينا خيار آخر؛ بنودع أولادنا لكن ما بنودع كرامتنا ولا دينا ولا عزتنا؛ بدون عزة فالموت تحت أرضه أرحم بمليون مرة من العيش فوقها".