كانت عقارب الساعة تشير للثانية عشر منتصف الليل؛ حينّ قدم القائد العام لكتائب القسام الشهيد القائد صلاح شحادة بصحبة زوجته؛ لمنزلها؛ يزف إليها نجلها الاستشهادي محمود العابد؛ الذي ارتقى في السادس عشر من يونيو لعام 2002.
لا يزال الجميع مستيقظا في هذه الليلة الأبناء والبنات جميعا؛ باستثناء الأب؛ الذي ذهب للنوم مبكرا؛ ليستيقظ ويرى جلبة في المنزل، يسأل ماذا هناك؛ "لا شيء الأبناء سهرانيين".
ثم لحظات يتوافد فيها أبناء المنطقة وشبابها نحو المنزل؛ بعدما ذاع نبأ تنفيذ عملية استشهادية قام بها محمود، قتل خلالها 4 مستوطنين في مغتصبة دوغيت التي حررتها المقاومة لاحقا في العام 2005م.
تقول الخنساء الفلسطينية التي وثقت لحظات تصويرها مع نجلها الاستشهادي محمود؛ أثناء تصويره لوصيته؛ جاءني "الشهيد أيمن أبو هين يحمل كاميرا لتصوير محمود؛ وطلب مني نجلي أن أفعل ذلك؛ لتوافق قيادة الكتائب على ايداعه لتنفيذ العملية".
قمت بتصوير الوصية دون تردد؛ فأنا أؤمن "أننا لم نأت بأبنائنا لكي نعلفهم؛ بل ليكونوا رجالا يستعيدوا كرامتنا وأرضنا، ولأجل هذا فقط ولدناهم".
مرّ اليوم الأول وعاد محمود في مسائه دون عملية؛ ثم لمرة ثانية؛ ثم لثالثة ولم تنجح، "فقلت له يما بالله عليك ما تقلي رايح تعمل عملية؛ خليها لمن ربنا يريد وتنجح؛ ثم جاء ليحتفي بعرس خاله الشهيد مصطفى صالح مرافق الشهيد القائد عبد العزيز الرنتيسي؛ رقصت مع نجلي واخي؛ وكنت أدرك بأنه ذاهب لينفذ العملية".
في هذه الليلة غادر محمود منفذا لعمليته؛ ثم بدأت أصوات المساجد بالتكبير؛ ليستيقظ الوالد على نبأ استشهاد نجله؛ "ما هذا يا أم احمد؟ لا شيء شهادة بكالوريس في الصبر نلتها؛ وعليك أن تتهيأ لأخرى".
في تلك الفترة كان لا يزال نجلها خالد في مقتبل عمره طفلا؛ لكنّها أيضا لم تتردد في دفعه للانضمام لكتائب القسام؛ ليشتبك خالد في معركة الفرقان عام 2008، حين قاد مجموعة من المقاومين في منطقة الكرامة؛ جاءها نبأ استشهاده مرتين، "وقلب الأم في كل مرة يكذب!"
تضيف: "خالد هاد أصغر أبنائي، قالوا لي استشهد بعدما قطع الاتصال به، لكني كنت أقول لهم انا قلبي بحكيلي أنه عايش؛ وفعلا بعد فترة ثبت أنه في كمين مفاجئ؛ فاجئ الاحتلال عند وصولهم للمنطقة واستشهد هناك".
تتحدث الأم، "عند خالد بكيت، بكيت كثيرا كان آخر أطفالي آخر العنقود؛ لكني قلت له والله لا أخسرك عند الله".
يسأل الأب، ماذا بقي يا أم أحمد؟ تجيب "هذه شهادة ماجستير في الصبر، الله يكرمنا بأجرها".
لا تنتهي القصة هنا؛ تأتي معركة سيف القدس عام 2021؛ لتقف أم أحمد العابد على رأس نجلها مصطفى؛ الذي سمته باسم شقيقها؛ وكان واحدا من أبناء القسام البارزين في المجال الجوي؛ جاءت اللحظة التي تزفه شهيدا.
تسرد الخنساء بالقول: "مصطفى تأخر استشهاده كتير؛ كان دائما يقلي يما أنا تأخرت في الشهادة، وأنا كنت أقول له، يما احنا الي تأخرنا في شهادة الدكتوراة! مش أنت"
مع استشهاد مصطفى؛ تعلق الخنساء بضحكة تعلوا صوت ممزوج بالوجع، "الحمد لله يما جبت لجوزي شهادة الدكتوراة في الصبر".
أم أحمد دمر الاحتلال منزلها في هذا العدوان؛ ولا تزال شاهدة على قوة وبأس رجال وشباب كان بيتها مفتوحا لهم، وهم يرسمون صورة النصر الحاسم لشعبهم، "أنا ما فقدت 3 من ابنائي، انا كل شاب دخل بيتي هو ابني، كل شاب ارتقى من أبناء شعبنا ابني، كلهم غاليين علي؛ لكن الأهم أنهم ما بيغلوا على ربهم ولا على وطنهم".