نقلب في تواريخ الصور، القديمة منها والحديثة، فتختلط صور الأرض الخضراء بالأشلاء المعلقة على ما بقي من جدران في مدينة جباليا والتي تتركز فيها الإبادة الجماعية للشهر الثاني دون توقف.
وبين شد ورخي، كر وفر يقارع أهلها الاحتلال، يهربون في الحواري والأزقة جارين وراءهم ثباتهم، وكأنهم يهربون من كلب ضال، وربما لا يتخيل عقل أنهم يركضون هربا من طائرة عسكرية، الكواد كابتر، أو من صواريخ F16 التي تعاقدت مع القتل، فلا ترى متحركا إلا قذفته بالحمم.
حسنا سيكون الهروب مختصرا، في الحارة المجاورة، حتى تبحث الكواد كابتر عن هدف جديد فيعود الهاربون أدراجهم إلى ما تبقى من بيوتهم، يفردون غطاء فوق الحجارة، ويجلسون! ولكنهم لغرابة عنادهم لم يرحلوا، بعد عام من الإبادة الكاملة، يواجهون الموت، إن كان فوق أرضهم وعلى رفات بيوتهم.
ولا عجب أن مدينة بهذا القدم تعرف اسمها، وتعرف تضاريسها، وما خفي أسفل رمالها من مقامات وحجارة قديمة، سبقت عمر الاحتلال بقرون، ولا عجب أيضا أن تتشبث بالأرض حيث زرع الزيتون وتجذر تماما كعائلاتها المعروفين بالعناد، ومنها انطلقت ثورات كثيرة.
وإن كان هذا الثبات أدهش الكثيرين ممن لا يعرفون المدينة القديمة وأهلها، فإنه لم يدهش سكان قطاع غزة، فمنذ الأزل وأهل هذه المدينة على قدر كبير من العناد والإصرار.
بنيت المدينة في العهد الروماني، حيث أقام الرومان على جزء من أراضيها قرية "أزاليا"، والتي اندثرت عندما رحلوا عنها وتحول اسمها إلى جباليا، بوابة الشمال، ومنها امتدت بيت حانون، وبيت لاهيا، أرض التفاح والقرنفل والتوت، حيث لا طعم أحلى من طعم توت الشمال، وتفاح بيت لاهيا.
وهناك حيث أرض الروائح الحمراء، تدفقت الدماء غزيرة عزيزة على مدار عصور، وكتب اسمها في تاريخ طويل من الثورات، فمنها انطلقت شرارة الانتفاضة الأولى في 8 كانون أول/ ديسمبر من عام 1987م والتي امتدت لاحقا إلى كل الأراضي الفلسطينية المحتلة ليطلق على مخيمها اسم "مخيم الثورة".
يعرف الاحتلال ما الذي تعنيه المدينة العنيدة، فطريقته في اجتياحها لمرات عديدة منذ عام، وإبادة كل من فيها، وترحيل من تبقى، وهدم البيوت حجر فوق الحجر، ثم العودة لهدم المهدم، وتجريف الطرقات التي جرفها مسبقا، وكأنه يخاف من المارد الذي جربه عشرات المرات، بأن يخرج من تحت الركام ويأكله، وربما هو يعرف أنه حتما سيخرج كما خرج في كل مرة بين أنقاض المدينة المهدمة، وسينفض الغبار عن ثيابه، وبدأ من جديد قصة مقاومة أخرى.
"أحرقونا" يقولها طفل من جباليا ويبتسم، وهو يبحث عن شربة ماء يعود بها إلى أمه، حيث عطشت المدينة التي كانت مخزون مياهها الجوفية أكبر مخزون في قطاع غزة، ولكنه رغم الجوع والعطش، يبتسم للبقاء والثبات.
غريبة جباليا، غريبون أهلها، نضع ألف علامة استفهام على حبهم لها، وإصرارهم على العودة في كل مرة، ونسأل أنفسنا، كيف قضوا عاما كاملا دون نوم وهم يحاربون الرعب، ويسقون أطفالهم كل يوم طريقة جديدة في الثبات، في زمن أصبح فيه قتل الفلسطيني أمرا جماعيا، وكأن كل الشعوب اتفقت عليه! وكيف استخدم المحتل كل ما لديه من وسائل لا إنسانية، حتى يطرد أهلها منها، ولكنهم لم يرفعوا راية ولم يسلموا مقاوما !!
قصص كثيرة حملتها أمهات جباليا، وهن يحملن الطعام إلى مقاومين مرابطين كما فعلت ذات النطاقين يوما، ويهتفن من بعيد للصواريخ التي تطلق من الأراضي الشاسعة، ويستودعن أبطال الثغور القريبين جدا من مرأى أعينهن، دون أن يكون في قلوبهن خوف من استشهاد ابن أو حفيد أو زوج، فكله فداء للحق!
على امتداد شاطيء البحر تتمدد المدينة بمخيمها المعروف، والمزروع في الوسط، وبجانبه أحياء يمكنك أن تعدها على اليدين: النزلة، تل الزعتر، حي الكرامة، حي عباد الرحمن، حي الزهراء، مشروع العلمي). كلها على طول الكيلو ونصف على امتداد ساحل البحر المتوسط حولها المحتل إلى أنقاض.
يسأل الغرباء حينما يعرفون أن هذا الاسم ذو المعنى الكبير هو لمدينة صغيرة!! يتعجبون، كيف تتعلم المدن أن تكون شوكة في حلوق الظُلام، حتى وإن أجمع العالم على كسرها، لم يقدروا.
يوجد في المدينة الأثرية المسجد العمري الذي يعود تاريخه للقرون الوسطى، حيث إن جميع أجزاء المسجد الآن بنيت حديثًا، إذ لم يتبق أي أجزاء قديمة منه باستثناء الرواق والمئذنة، والتي مسحت على يد همجية المحتل.
ولا تخلو المدينة القديمة بالطبع من مقامات أوليائها الصالحين، يوجد مقام الشيخ المشيش، الذي وفد إلى غزة من المغرب وأقام فيه خلال العصر المملوكي.
ولعل أهم معلم أثري باق حتى اليوم هي أرضية الفسيفساء، والتي تعلوها بقايا الكنيسة البيزنطية، ومن المتفق أنها أبيدت على يد الاحتلال الإسرائيلي كما أباد البشر.
ربما لحماقته يمكنه أن يدعي أن لا مدينة كانت في هذه البقعة يوما، ربما لم يجرب كيف تعرف المدن أصحابها. أو ربما لا يعرف أنها استمدت اسمها من العلو، ولم تكن جبلية يوما، وفيها أكبر مخيم للاجئين في قطاع غزة، وربما هذا كاف في تعريف الثورات والشعوب المقاومة.
أكثر من 400 يوم مرت من عمر الحرب على جباليا وكأنها اليوم الأول، مساعدات شحيحة يسمح المحتل بدخولها جعلت المدينة في مجاعة كبرى، 75 % من آبار المياه مهدمة، أراض محترقة لا زرع فيها ولا غلة، 90 % من البيوت هدمها المحتل بشكل كلي أو جزئي.
مدينة بلا حياة، حيث توقف عمل البلديات والدفاع المدني بشكل كامل، انعدام أمن غذائي، انهيار لكل النظام الصحي، أكل أهل جباليا أعشاب الأرض التي لا تؤكل، خبزوا علف الحيوانات ولم يرحلوا، صرخوا في وجه العالم ألف صرخة، خسروا 1800 شهيد خلال شهر واحد، وكل ذلك لم يكن سببا كافيا لأهلها الأبطال حتى يستسلموا أو يهزهم اليأس.