لقد خلقت هذه الحرب ضعفا قاد إلى عجز في قلوب النازحين والمنكوبين في قطاع غزة، لاسيما ذوي الإعاقة، لما يواجهونه من معاناة لتوفير احتياجاتهم الشخصية، ولكنها من جانب آخر خلقت إبداعات قدمها مبادرون لتفادي تضخم المشاكل المجتعية، وحتى لا تنهار البشرية داخل القطاع بتأخر التعليم والخدمات الإنسانية وتراجعها في ظل الإغلاق المستمر للمعابر ومنع الاحتلال دخول أي مواد إغاثية أو غذائية.
وهناك في بقعة ضوء قريبة بين المخيمات في بلدة الزاويدة أضاء الأمل عيني نسمة الغول، الفتاة الكفيفة، التي قد يرى الناظر إليها عجزا كاملا عن تقديم أي خدمة، ولكنها استمرت في خدمتها لأفراد معاقين رغم حاجتها هي لمن يقدم لها المساعدة.
تقول: "مثلما خدمت قبل الحرب فئة المعاقين قررت إكمال مسيرتي من خلال إدارة مخيم للنازحين المعاقين في منطقة الزوايدة "، وتقول: "أنا إدارية وهذا عملي"، وتتنقل بين المعاقين تقدم لهم خدماتها، مضيفة "يجب أن يكون لي دور لخدمة نفسي وخدمة هذه الشريحة".
تغلبت نسمة على إعاقتها، وعملت منسقة مركز الإعاقة بالجامعة الإسلامية في غزة، وحصلت على درجة الدكتوراة في التفسير وعلوم القراَن، وذاقت ويلات الحرب، نزحت لأكثر من أربع مرات، من حي الشجاعية الذي ولدت فيه، وفقدت خلال نزوحها كل احتياجاتها الشخصية، ووصلت إلى رفح، ثم بعد اجتياح رفح نزحت مرة اخرى إلى منطقة الزاوايدة.
في قلب الخيمة التي تعددت وظائفها دون راحة أو مقومات أكملت نسمة الغول رسالتها. تقول: "قمت بتشكيل فريق شبابي، ووضع هيكلية لبناء مخيم يتم من خلاله تقديم الخدمات للنازحين، وتوفير احتياجاتهم".
يقدم المخيم الذي تديره الغول خدمات تعليمية وإغاثية، وقد استغرب الأهالي هذه المبادرة، من كون فتاة كفيفة يمكنها أن تفعل شيئا لواقع المعاقين في ظل هذه الإبادة واحتياجاتها غير المتوفرة، ولكنها كانت مصرة على الإكمال من خلال خيمة تضم عشرات المعاقين.
يقول أحد المساعدين لها: "تغلبت نسمة على إعاقتها البصرية، هي تطرح الأفكار وتدير المخيم ونحن ندعمها ونساعدها وننفذ قراراتها".
تحلم نسمة الغول بأن تكمل الطريق، بإرادة قوية، أو تقدم للمعاقين بصيص أمل في وضع ابتلع الاحتلال فيه كل القدرات، وتطمح بأن تكمل في مجالها البحثي الأكاديمي، بل وتطمح بأن تكون معلمة في إحدى الجامعات الدولية المرموقة، كل هذا لتثبت للعالم بأن غزة التي تحارب وتقتل كل يوم قادرة على بناء الأمل من جديد في جنبات النزوح وبين الخيام المهترئة.
ولعل هذه الحرب جعلت المجتمع الغزي مواجها لواقع الإعاقة الذي ازدادت أرقامه بشكل ملحوظ وفاجع خلال عام من الإبادة،
وبحسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ عدد الأفراد ذوي الإعاقة في فلسطين قبيل الحرب على قطاع غزة، في السابع من أكتوبر الماضي، 115 ألف فرد شكلوا ما نسبته 2.1 % من عدد السكان.
وبحسب الإحصائيات لعام 2023، بلغ عدد الأطفال ذوي الإعاقة في القطاع نحو 98 ألف طفل في الفئة العمرية ما بين سنتين و17 سنة، منهم نحو ستة آلاف طفل في الفئة العمرية ما بين سنتين وأربع سنوات، وما يقارب 92 ألف طفل في الفئة العمرية ما بين سنتين و17 سنة.
ولفت تقرير الإحصاء إلى أن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة تسبب في الإعاقات الحركية لنحو 2000 فرد بالغ مشكلة ما نسبته 9% من الأفراد البالغين من ذوي الإعاقة الحركية، ونحو 3% في المئة من الأطفال دون الـ18 سنة من ذوي الإعاقة.
وأضاف التقرير أن الجرحى في قطاع غزة منذ بدء الحرب وبخاصة الأطفال الذين يشكلون 17 في المئة من مجمل الجرحى، يعانون تداعيات مختلفة تتمثل في إصابات جسدية خطرة، قد يحتاجون على أثرها إلى جراحات متكررة وعلاجات طبية مكلفة، وأن الإصابات قد تؤدي إلى الإعاقة والعجز الدائم مما يؤثر على مستقبلهم.
كما بيّنت "هيومن رايتس ووتش" أن القصف والحصار والهجوم البري الكبير من جانب الاحتلال على غزة يتسبب في خسائر فادحة في صفوف المدنيين الفلسطينيين ذوي الإعاقة. كما أنهم يواجهون صعوبات أكبر في الفرار من الهجمات وتلبية الاحتياجات الأساسية والحصول المساعدات الإنسانية التي هم في أمس الحاجة إليها.
تعرف الكفيفة نسمة الغول دورها، وتقدر مكانتها وإمكانياتها ولديها الكثير من الأفكار والأحلام التي يمكنها أن تقدمها لمعاقين يزداد عددهم يوما بعد يوم، في ظل الحروب والإبادة المتواصلة على غزة منذ السابع من أكتوبر وما قبله، لذلك تسعى لأن تقول للعالم، إن الأيام القادمة لنا، حتى من العتمة، سنضيء بقعة من ضوء.