قبل أيام، شددت قوات الاحتلال (الإسرائيلي) الحصار على مدينة بيت لحم وأغلقت مداخلها، وانتشرت في عدة أحياء بحثًا عن منفذ عملية (النفق) بعد أن انسحب عقب تنفيذ العملية.
وبعد مطاردةٍ استمرت لساعاتٍ طوال الليل، تم اعتقال المنفذ عز الدين المسالمة بعد أن سلَّم نفسه على حاجز النشاش قرب بيت لحم.
وقد أثار هذا التسليم العديد من التساؤلات في الأوساط الفلسطينية، حيث يُعتقد أن المنفذ لجأ إلى السلطة الفلسطينية، التي يعتقد البعض أنها أخذت بياناته وسلمتها للاحتلال، مما سهل وصول الاحتلال إليه.
هذا الحادث أثار موجة من الغضب في صفوف الفلسطينيين، الذين اعتبروا أن هذا التعاون مع الاحتلال يعد خيانة للقضية ولأرواح الشهداء.
ولكن للأمهات ثمن يجب أن يدفعنه، في كل زاوية من بلدات الضفة الغربية، تختبئ الحكايات التي تنطق بالدموع، الغضب، والألم.
تلك هي حكاية أمهات أصبحن أبطالًا في سجون الاحتلال، تتصاعد أصواتهن، بينما تلاحقهم أيدي جيش الاحتلال (الإسرائيلي) من مكان إلى آخر، مع كل فجر جديد، لينتزعوا منهن حضورهن وهن في أوج ألمهن وهن يكابدن فكرة فقدان الأبناء.
بدأت القصة في بيت عوا، البلدة الصغيرة الواقعة جنوب غرب الخليل، حيث كانت السيدة منى ملوح مسالمة تعد فطورًا يوميًا لعائلتها، لكن لم يكن هناك أي شيء عادي في ذلك اليوم الذي جاء فيه الاحتلال لاعتقالها.
اقتحمت قوات الاحتلال منزلها قبل أيام، وأخذوها دون رحمة من بين أفراد عائلتها.
اعتقالها لم يكن فقط بسبب هوية ابنها، عز الدين مسالمة، الذي نفذ عملية فدائية على حاجز (النفق) قرب القدس المحتلة، بل كان لأسباب أخرى يراها الاحتلال تهديدًا لوجوده في المنطقة.
الحكاية كما روتها منى في لقاء تلفزيوني بعد الإفراج عنها، كانت مليئة بالمرارة، عيون الجنود التي لا تعرف سوى العنف، أجبرتها على إفراغ محتويات منزلها، وكأنها تفتح خزائن ذكرياتها لتشاهد أوجاعها تتساقط من بين يديها.
وعندما بدأوا في تحضيرات هدم المنزل، كان قلبها ينفطر، ولكنها علمت أن كل هذا لن يكون كافيًا لإبعادها عن ابنها، عز الدين، ذلك الشاب الذي طالما ناضل من أجل حرية وطنه، ودفع ثمن ذلك بحريته.
اعتقلت أم البطل مع خمسة من أبنائها، تعرضت للتعذيب والمساءلة والحبس الانفرادي، والإهانة ليس لسبب سوى لأنها أنجبت بطلًا فلسطينيًا.
لكن السيدة منى لم تكن الوحيدة التي تحمل هذا الوجع، فكل أم فلسطينية قد تُعتقل على يد الاحتلال في أي لحظة، فهناك العديد من الأمهات اللواتي عايشن نفس القسوة، في سبيل دفاع أبنائهن عن أرضهن.
ففي ساعات الليل، يقتحم الجنود المنازل، يعيثون فيها فسادًا، ويعتقلون الأمهات لتقديمهن كرهائن للضغط على أبنائهن المقاومين.
تساءلت السيدة منى وهي في زنزانة الاحتلال عن السبب الذي يجعلهم يستهدفون الأمهات، هل هو الانتقام من الأم التي ربت طفلًا على حب الوطن؟ أم أن هذا جزءًا من استراتيجية العدو لتفكيك عائلات المقاومين؟ أم هو اعتراف بعجزه عن إخضاع هؤلاء الشباب الذين يقاومون بكل ما أوتوا من قوة، فيقتنصون الأمهات كجزء من حربه النفسية؟
وما حدث بعد اعتقالها لم يكن أقل قسوة، حيث ظلت السيدة منى تحت التحقيق في سجن (عوفر) لفترة طويلة، تتعرض فيها للتنكيل النفسي والجسدي، بينما كان الاحتلال يرسل رسائل رخيصة إلى عائلتها بأنه لن يوقف سعيه للانتقام منهم.
في تلك الأثناء، كانت الأخبار تتوالى عن الحصار المشدد على مدينة بيت لحم، حيث كان الاحتلال يبحث عن عز الدين بعد تنفيذ العملية، وهي لحظات مؤلمة بالنسبة لأمهات فلسطين، اللاتي يعشن في ظل تجارب قاسية تعيد إنتاج الحزن يومًا بعد يوم.
وعندما تم الإفراج عن منى ملوح مسالمة، كانت أيديها ما تزال تحضن ذكريات القهر، "أبناؤنا لن يخضعوا"، تقول منى، بينما تتحمل عذاب القيد الذي فرضه الاحتلال عليها وعلى عائلتها.
ورغم كل ما تعرضت له، فإن الأمل كان ينبض في قلبها، فلم يكن الاعتقال إلا حلقة جديدة في معركة من لا يرضون الذل، معركة الأمهات اللواتي ينجبن المقاومين في كل شبر من الأرض الفلسطينية.