أسطورة المقاومة أسطورة المقاومة

ترويها الرسالة للمرة الأولى

مواقف للضيف في بيته وبعيون من عاشروه

الرسالة نت- محمود هنية

أسدًا مهابًا؛ ليثًا هصورًا؛ عرفته دولة العدو منذ غرس أنيابه في أحشائها قبل ثلاثة عقود ونيف؛ حين أطلق أول رصاصة بجوار بيته في خانيونس معلنًا بذلك مرحلة جديدة في حياته؛ يحل فيها ضيفًا دائمًا في بيوت الغزيين؛ ويمثل فيها رعبًا وكابوسًا على المحتلين! 

صاحب قلب ميت؛ فهو رديف الخوف لا يفارقه منذ صباه؛ ينام كما الذئب يغمض عينًا ويبقي الأخرى يقظة ساهرة على وطنه السليب صوب المناطق الحدودية التي تحفظ ملامحه جيدًا؛ وتشتم رائحته التي تشبهها فهو ابن الأرض التي احتضنته فوق تربها وفي أسفل منها؛ وأخيرًا جثا في أحشائها! 

عن جنرال الرعب كما صنفه عدوه؛ عن العبقري الفذ كما وصفه أحباؤه؛ عن الأب والروح والحياة؛ كما ينعته أبناؤه ومحبوه ومن عمل تحت كنفه؛ عن ابن القدس البار كما سماه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية. 

نفتح اليوم صفحات من كتاب تعكف على إعداده أم خالد رفيقة الدرب؛ زوجة الحبيب؛ وصاحبة المشوار الطويل؛ تنوي نشره قريبًا؛ وتخط الرسالة شيئًا من فصوله ومواقفه؛ وتسردها في هذا التقرير؛ إلى جانب مواقف تروى للمرة الأولى على لسان من رافقه في الظل! 

الزوج والأب!

قبل 27 عامًا، تقدم محمد دياب المصري "الضيف" لخطبة "غدير صيام" ابنة الأسيرة المحررة فاطمة الحلبي؛ تلك الأسيرة التي تزوجت في المرة الأولى بالشهيد زياد الحسيني قائد قوات المقاومة الشعبية في قطاع غزة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي؛ وكانت رفقة شقيقتها رجاء الحلبي التي قادت الحركة النسائية بحماس لاحقًا وتقلدت عضوية المكتب السياسي بالحركة. 

كانت فاطمة ووالدها من بواكير الملتحقين بالمقاومة الفلسطينية في تلك المرحلة؛ أُسرت واعتقلت ونُكل بها في سجون الاحتلال؛ كان الضيف في تلك الفترة لا يزال طفلًا؛ حتى كبر؛ وشاء القدر أن يلتحق بحركة حماس؛ ثم يتدرج في صفوف مقاتليها؛ وصولًا لقيادة "مجموعة المطاردين" التي أعادت تشكيل كتائب القسام في بدايات تسعينيات القرن الماضي؛ خلفًا لقائده العام الشهيد ياسر النمروطي. 

تزوج الضيف من ابنة فاطمة؛ وبقي 12 عامًا بدون إنجاب؛ مرحلة تلخصها أم خالد: "عشت أنا وإياه على فرشتين وحصيرة؛ وكنت بالكاد أراه في تلك الفترة؛ وبعدما رزقت بأطفالي اشترى فقط فرشتين أخريين، وبقيت الحصيرة لدينا أكثر من 26 عامًا". 

كانت وقتها المطاردة على أشدها وفق أم خالد؛ وكان يضطر زوجها المطلوب الأول لدولة الاحتلال؛ للبقاء فترات طويلة خارج البيت؛ ثم شاء القدر في تلك الفترة الارتباط بالشهيدة وداد عصفورة؛ وهي زوجة شهيد سابق. 

رزق الضيف بعدها بتوأم من أم خالد "خالد وبهاء وخديجة" في العام 2010، فالثاني أسماه على اسم خاله الشهيد بهاء الذي ارتقى في مواجهة مع الاحتلال؛ كما أنجب أيضًا من وداد "حليمة وعمر إلى جانب علي وسارة اللذين ارتقيا في استهداف صهيوني لعائلته في عدوان 2014". 

تسرد أم خالد مجموعة من المواقف التي تكشف طبيعة الأبوة والحنان لزوجها؛ حنان استثنائي من رجل يبدو في أشد غلظته مع عدوه؛ هو في ذروة حنانه مع أهله. 

تقول أم خالد: "عندما بدأت تهدأ الأمور؛ كان أبو خالد يترك مساحة كاملة لست ساعات يأخذ فيها إذنًا من الجهاز العسكري؛ ويدرس أبناءه على لوح أبيض؛ يعدّه خصيصًا لتدريس الأبناء؛ يفعل ذلك قبل اختباراتهم؛ وكان حريصًا جدًا على تفوقهم في الدراسة". 

موقف آخر: "أبو خالد لم يكن يعبر بالكلمات عن حبه؛ لكن كان يترجم ذلك بالأفعال؛ مؤخرًا كنت أحتاج لعملية في عيني؛ فأخذ الضيف أسبوعًا إجازة كاملة؛ ليتفرغ بالبقاء معي". 

موقف تسرده أيضًا: "كان الضيف يحب أطفاله كثيرًا؛ وكان دائمًا يهيئنا لأمر الشهادة؛ عندما استشهد علي وسارة حزن كثيرًا؛ وكان يقول (..) معليش هذه ضريبة وبدنا ندفعها، وبدنا نهيىء حالنا كلنا نكون شهداء". 

عن كرمه في بيته بلا حد؛ لكن "ذات مرة جاءت فاتورة الكهرباء مرتفعة؛ فيومها كان له موقف حاسم؛ وطلب الترشيد في الاستخدام؛ وكان حريصًا على دفع مستحقات المال العام". 

أيضًا "كان أبو خالد يتعب من الطعام الذي يحتوي على زيت الطعام؛ فاشترى جهازًا للقلي يعمل بالكهرباء، وعندما حسب كلفته المرتفعة للكهرباء أعاده، ورفض أن يبقيه في البيت". 

من أكثر الطبخات المقربة لقلبه تلك التي تطهيه "حليمة" والدته، "سلق وعدس؛ وبصارة؛ والأكلات الشعبية الأخرى"، أما عن شرابه المفضل فهو "الزنجبيل"، تذكر زوجته.

يحاول الضيف أن يعوض أبناءه طيلة أيام الغياب القسرية التي تفرضها عليه ظروف المطاردة؛ "فور عودته يبدأ بملاعبتهم والسؤال معهم عن أحوالهم؛ وكان حريصًا جدًا في كل مرة أن يعلمهم القرآن ويحفظهم إياه". 

أبناء الضيف حفظوا قبل الحرب أجزاء كبيرة من القرآن الكريم؛ فهو حريص على أن يتعلموه قبل أن يحفظوه؛ ولكن تقول أم خالد: "كان أبنائي ينتظرون انتهاء الحرب على أحر من الجمر؛ لأجل أن يفرحوا والدهم بخبر حفظهم الكامل للقرآن فترة الحرب". 

ثبت خالد وبهاء حفظهما للقرآن كاملًا؛ وحفظت خديجة 15 جزءًا منه؛ "كنا نجهز لأن نحضر لهم حفلة يفرح بها الضيف كما يفعل كل مرة عندما يحفظونه". 

برقية جاءت من الكتائب قبل أيام قليلة؛ يؤكدون فيها للعائلة ارتقاء الضيف؛ بعد ستة أشهر تقريبًا؛ "استشهاده كان متوقعًا في كل مرة؛ لكن كعائلة كنا نقول يا الله احفظه لنا ولقضيتنا؛ ولكن جاءت اللحظة التي يختاره الله فيها شهيدًا". 

تلخص أم خالد سيرتها بالقول: "كان أبا حنونًا؛ كان أخًا وعوضًا عن كل شيء؛ ولم يتردد يومًا عن فعل أي شيء يقول لنا فيه إني أحبكم؛ فالضيف يفعل لا يقول؛ ومشاعره يترجمها لا يبوح بها". 

عن أكثر المشاهد المؤلمة له؛ تقول أم خالد: "هجوم الاحتلال على الحرائر في المسجد الأقصى؛ أذكر يوما أنه بكى أمام أحد هذه المشاهد؛ وأقسم بغضب أن يدفع الاحتلال الثمن؛ ربما هذا الذي دفعه للتخطيط لطوفان الأقصى"؛ وفق تعبيرها.

أما عن مواقفه الإنسانية مع غير عائلته؛ فأم خالد تذكر موقفًا؛ "كان في سيارته ذات نهار؛ ووجد شخصًا مبتور الطرفين على كرسي مهترئ؛ أوقف الضيف سيارته؛ وسأله ماذا تريد؟ فاستغرب الشاب وسأل الضيف من أنت؟ فلم يرد أبو خالد وأصر على سؤاله، ليجيبه، "بدي كرسي متحرك". 

وعده الضيف بكرسي كهربائي؛ لم يصدق الشاب؛ وقال له أنت تضحك علي وتستهزئ بي؛ فأخذ الضيف معلومات الشاب؛ وقال له "أراك غدًا"، وفي اليوم التالي؛ ذهب الضيف بنفسه إلى بيت هذا الشاب مصطحبًا الكرسي. 

هذا الموقف يقودنا لمواقف الضيف مع أبنائه في الجهاز العسكري لكتائب القسام؛ يسردها شخص رافقه في لحظات فارقة؛ يقول "الضيف كان بينه وبين الموت أمتار قليلة ليست مرة ولا مرتين بل مرات عدة". 

يكشف ضيفنا في حديثه لـ"الرسالة نت"، أن الضيف كان ذات يوم بمقربة بيت رفيقه الشهيد عدنان الغول؛ بالقرب من مسجد المحطة؛ وكانت وقتها الدبابات تقتحم المكان؛ يقول الضيف "للحظة اقتربت مني تمامًا ورأيتها أمام ناظري؛ لكن سريعًا غادرت ولم يكشف الجنود مكاني". 

عن المناطق التي عرفها الضيف شبرًا شبرًا؛ تلك الأقرب للعدو؛ فيقول إن الضيف كان يؤمن بأن أقرب مكان للعدو هو أكثره أمنًا؛ كان يعيش على بعد أمتار قليلة من مغتصبات العدو؛ رفقة رفاق دربه الشهداء الكبار؛ عدنان الغول وسعد العرابيد وغيرهم. 

يسرد ضيفنا مواقف إنسانية للضيف مع أبناء الكتائب: "كان يهتم بشكل أساسي بالجرحى والمصابين من أبناء الجهاز؛ وذات يوم غضب غضبًا شديدًا عندما علم أن أحدهم رفع كتابًا له بشأن تلقي مساعدة للعلاج؛ وتأخر الكتاب في الوصول إليه؛ وأصدر تعليمات واضحة "ممنوع يتأخر أي كتاب مرفوع إلي؛ هؤلاء الشباب قدموا لنا أعمارهم وأرواحهم، وكل شيء يرخص لهم". 

عندما توفي والده قبل عامين؛ في الليلة الثانية قدم للموقع العسكري بكامل تماسكه؛ "تمرد الضيف كثيرًا على الحزن؛ فكان يقول "لو تركت لقلبي أن يحزن فلن أعيش؛ لكثرة من فارقهم من الشهداء". 

يتحدث ضيفنا عن موقف حصل مع القائد الضيف، "علم الضيف أن أحد مقربيه كان يحتاج لمبلغ مالي؛ فذهب إلى منزله "وقال له بدنا نتغدى مع بعض؛ لكن بشرط من فلوسي؛ وعندما خرج الرجل لعمل الغداء؛ وضع تحت فرشته مبلغًا من المال". 

"بعدما خرج أبو خالد؛ اكتشفت زوجة الرجل وجود المبلغ تحت الفرشة؛ وحينما سأل أبو خالد عنه، ضحك وقال له يا رجل أنت لليوم متذكر؟!". 

في هذا التقرير؛ نكشف للمرة الأولى عن تفاصيل متعلقة بعملية الاستشهادية ريم الرياشي؛ التي أشرف على تجهيزها الضيف شخصيًا؛ وهي أول استشهادية في كتائب القسام وفي قطاع غزة. 

الرياشي ألحّت كثيرًا على تنفيذ عملية استشهادية؛ ذهبت لمنزل الشيخ أحمد ياسين مستعينة ببعض بناته للضغط عليه والقبول بها استشهادية، وكان رده الدائم "قومي روحي يا بنت صالح فش عنا بنات للعمل الاستشهادي"، أي كان الشيخ يردها دائمًا. 

جاءت اللحظة التي قادت الضيف لتلتقي به ريم، تم اللقاء الأول وهي لا تعرف أنه محمد الضيف، "رفع صوته عاليًا؛ "أنت مفكرة فش عنا رجال؛ عنا استشهاديين بالآلاف ينتظرون دورهم"، حاول الضيف أن يبحث عن سبب اندفاعها للعمل الاستشهادي. 

غضبت ريم من طريقة الضيف وسألت وهي تبكي "مين مفكر حاله عشان يصرخ علي؟ هو مفكر حاله محمد الضيف؟! 

تسود حالة الصمت؛ ثم يعود مرة أخرى ويناديها تحت إصرار رغبتها في تنفيذ العملية؛ وقال لها "أنا محمد الضيف"، "بكت ريم كثيرًا؛ وسجدت سجدة الشكر؛ وقالت له والله لن أسامحك في الدنيا ولا في الآخرة إن منعتني من العملية الاستشهادية". 

حاول الضيف أن يردها بطريقة لطيفة؛ لكنها أصرت؛ ليعرضها الضيف على تجربة؛ وبعد نجاحها في هذه التجربة عزم الضيف على اختيارها لتنفيذ العملية. 

الضيف مكث في منزلها لعشرة أيام بالقرب من مستوطنة نتساريم؛ التي باتت تسمى بمفترق الشهداء؛ والتي عمل رجاله فيما بعد بتوجيه ضربات قاصمة لقوات الاحتلال على هذا الحاجز؛ الذي حاولت المكوث بها فترة حرب الإبادة التي تعرض لها القطاع. 

ويبقى ما ذكر وما يذكر وما سيكتب عن الضيف غيض من فيض؛ في حياة رجل. عاش طويلا في الظل؛ وبقي لغزًا محيرًا لعدوه؛ ويبقى ما خفي أعظم!

البث المباشر