صالح النعامي
على الرغم من أن النخب العلمانية لازالت تهيمن على المؤسسات الأكاديمية وتسيطر على المشهد الثقافي والإعلامي الإسرائيلي، وتضطلع بإدارة معظم المرافق الاقتصادية، إلا أنه منذ مطلع القرن الحالي حدث تراجع واضح وكبير في حجم سيطرة العلمانيين على هذه النخب لصالح المتدينين، وهذا لا يرجع فقط لتنامي دور الأحزاب الدينية وزيادة تأثيرها، بل بشكل أساسي بفضل العدد الكبير من كبار الضباط المتدينين الذين يسرحون من الجيش ويتم استيعابهم في المرافق المدنية المختلفة.
ويكفي أن المرء الذي يجلس الآن أمام شاشات التلفزة الإسرائيلية ليتابع البرامج الحوارية التي تبحث القضايا المختلفة يفاجأ بالعدد الكبير من المتدينين من أكاديميين وباحثين وكتاب رأي ومديري مرافق اقتصادية الذين يشاركون بشكل لافت في الجدل العام، وذلك بخلاف ما كانت عليه الأمور قبل عقدين من الزمان.
وتكمن أهمية هذا التطور في أنه يمنح المتدينين الفرصة للتأثير على الرأي العام الإسرائيلي ودفعه لتقبل المنطلقات الايدلوجية لهذا التيار من القضايا المطروحة. وضمن أسباب أخرى، يعتبر هذا أحد العوامل التي تقف وراء انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف والغلو.
تهديد النظام السياسي
لكن زيادة وزن المتدينين في النخبة عبر تغلغلهم إلى المناصب القيادية في الجيش والأجهزة الأمنية لا يمثل بالضرورة مصلحة "لإسرائيل".
فقد تبين أن تبوء المتدينين المواقع القيادية في الجيش الإسرائيلي ينذر بتهديد جدي وخطير للنظام السياسي الإسرائيلي، حيث أن الضباط والجنود المتدينين الذين ينخرطون في الجيش يكفرون بقيم " الديموقراطية " والانتقال السلمي للسلطة، وتحظى التعاليم الصادرة عن المرجعيات الدينية والحاخامات باحترام أكبر لدى الضباط والجنود المتدينين من الأوامر التي تصدرها قيادة الجيش، ويطلب الحاخامات من طلابهم من الضباط والجنود رفض الأوامر الصادرة عن قادتهم العسكريين في حال تعارضت مع تعاليم التوراة والتلمود.
وهذا ما حدث أكثر من مرة، فقد أعلنت مجموعة من الضباط في لواء الصفوة " كفير " أنها لن تنفذ أي أوامر تصدرها قيادة الجيش بإخلاء النقاط التي أقامها المستوطنون بدون تصريح من الحكومات الإسرائيلية.
ويتم تربية الضباط والجنود على رفض قيم الديموقراطية، فالحاخام "إلياكيم ليفانون" الذي يدير إحدى المدارس الدينية التمهيدية، قال: " الديموقراطية تضر بالواقع وتقود إلى خيارات غير حقيقية، ولذا يتوجب تجاوز حدود وأطر الديموقراطية، والالتزام فقط بالتوراة على اعتبار أنها تمثل الحقيقة المطلقة".
ومن الواضح أنه إذا كانت أبسط قواعد الديموقراطية تقوم على خضوع المستوى العسكري لتعليمات الحكومة المنتخبة، فإنه لا يوجد أي ضمانة أن ينفذ الجيش تعليمات الحكومات الإسرائيلية في حال زاد تمثيل المتدينين في هيئة أركان الجيش.
ولعل الذي يدلل على حجم قلق العلمانيين من تغلغل المتدينين في الجيش، هو ما قاله الجنرال شلومو غازيت، الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية بأن " الجنود المتدينين يذكرونني بالولاء المزدوج للضباط في الجيش النازي".
إحباط التسوية
من الواضح أن تعاطي "إسرائيل" مع مشاريع التسوية التي تطرح لحل الصراع مع العرب وتحديداً مع الفلسطينيين ستتأثر إلى حد كبير بتنامي تأثير المتدينين على الجيش.
فعلى سبيل المثال يفترض أن يشتمل أي اتفاق تسوية للصراع مع الفلسطينيين على إخلاء مستوطنات يهودية من الضفة الغربية، ومن الواضح أن كل المؤشرات تدلل على أن إخلاء المستوطنات سيواجه بردة فعل عنيفة من قبل أتباع التيار الديني الصهيوني، وضمنهم آلاف الضباط والجنود.
وهذا بالضبط ما حدا بوزير القضاء الإسرائيلي الأسبق يوسيف لبيد أن ينصح رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت بعدم التعاطي بجدية مع المفاوضات مع السلطة ، على اعتبار أن إخلاء المستوطنات يمكن أن يؤدي إلى حرب أهلية داخل "إسرائيل"، وتفكك الجيش .
وتلعب النخبة العسكرية دوراً هاماً في صنع القرارات السياسية، حيث أن الحكومات في "إسرائيل" تتخذ قراراتها بشكل عام في ضوء التوصيات التي تقدمها الهيئات القيادية في الجيش بوصفها جهات مهنية، ونادراً ما تتجاهل الحكومات توصيات الجيش.
وهناك أكثر من مؤشر على أن التوصيات التي يقدمها الجنرالات المتدينون والتي تتعلق بالتسويات السياسية تتأثر بمواقفهم الايدلوجية، وهناك بالفعل من شكك في موضوعية التوصيات التي يقدمها الجنرالات المتدينون.
فعلى سبيل المثال اتهم الوزير السابق يوسي ساريد الجنرال يعكوف عامي درور الذي ينتمي للتيار الديني الصهيوني، والذي كان يرأس لواء الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية بـ " فبركة " التقييمات من أجل إقناع حكومة إيهود باراك عام 2000 بأنه لا طائل من التسوية مع سوريا ولبنان، وذلك انطلاقاً من اعتبارات ايدلوجية وليس اعتبارات مهنية. علاوة على ذلك فإن انتقال الجنرالات المتدينين للعمل السياسي بعد تسريحهم من الخدمة العسكرية سيزيد من تأثير التيار الديني على صنع السياسات العامة في الكيان الصهيوني.
الاستلاب لخيار القوة
أن تغلغل المتدينين في الجيش الإسرائيلي لن يدفع فقط "إسرائيل" لنبذ سبل تسوية الصراع بالطرق السلمية، بل أنه سيدفع الكيان الصهيوني للتوسع في ممارسة القمع ضد الفلسطينيين واستسهال شن حروب على العرب.
ولقد تربى الضباط والجنود المتدينون على تقديس القوة والسجود لها والإيمان بتأثيرها لحسم الصراع مع العالم العربي، وقد قال الحاخام شلومو أفنير الذي كان مديراً لواحدة من أهم المدارس الدينية العسكرية " الحرب هي مأساة للفرد، إلا أنها ليست نعمة للأمة "، في حين حث الحاخام يهودا أميتال، الذي كان يوصف بالاعتدال، على شن الحروب قائلاً " تولد الحرب عملية التطهير والتصفية والتنقية وتنظف مواطني "إسرائيل ".
من هنا فإنه نجاح المتدينين في السيطرة على المزيد من المواقع القيادية في الجيش سيعزز فقط ميل "إسرائيل" لشن مزيد من الحروب ضد العرب، والتوسع في استخدام القوة المفرطة وغير المتناسبة.
في نفس الوقت فإن هناك علاقة واضحة بين تعاظم تأثير المتدينين على الجيش وبين ميله لاستخدام القوة المفرطة ضد المدنيين الفلسطينيين والعرب.
فقد أدت زيادة ثقل المتدينين الكبير في المواقع القيادية في الجيش الى فتح أبواب الجيش أمام غلاة المتطرفين من الحاخامات الذين اشتهروا بإصدار الفتاوى التي تدعو إلى قتل المدنيين الفلسطينيين، للتنظير لأفكارهم. وخلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة سمح الحاخام الرئيس للجيش بتوزيع نشرات تتضمن فتوى للحاخام شلومو أفنير تدعو لقتل المدنيين الفلسطينيين رجالاً ونساءً وأطفالاً وحتى البهائم.
وهناك مؤشرات كثيرة أن بعض الجهات داخل المستوطنات التي تتولى تنفيذ الاعتداءات ضد الفلسطينيين، مثال جماعة " فتية التلال "، التي تقوم باجتثاث أشجار الزيتون وتسمم آبار المياه الارتوازية في الضفة تضم عدداً من الجنود المتدينين في الجيش.