الناصرة- وكالات والرسالة نت
قبل 35 عاما، كان يوم الأرض الأول الذي أطلقه فلسطينيو 48، ولم يكن صانعوه يعلمون أنهم يخوضون حدثا سيتحول إلى ذكرى تاريخية ما تزال حية تنبض في جميع أماكن تواجد الشعب الفلسطيني وبين مؤازريه، فقد كان يوم تدشين المرحلة الثانية من مسيرة فلسطينيي 48.
وكانت المرحلة الأولى من النكبة حتى أوائل سنوات السبعين، ليأتي يوم الأرض ويحطم ما تبقى من جدار الخوف، ولينطلق الجيل الثائر ليغير معادلات كثيرة من وسائل النضال والكفاح، كما أن المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، اعتبرت ذلك اليوم نقطة تحول لها، لتصعد أكثر سياستها لتواجه تصعيدا نضاليا أكبر.
لمحة تاريخية
سارعت الحركة الصهيونية والمؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، منذ الأشهر الأولى بعد إعلان قيام إسرائيل، واحتلال جزء كبير من المناطق التي كان من المفترض أن تبقى في إطار الدولة الفلسطينية وفق قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في خريف 1947، إلى تسريع السيطرة على أكثر ما يمكن من أرض، وسنت قوانين على مقاسات الوضع القائم على الأرض، ولكنها في المحصلة تقود إلى سلب ونهب الأرض الفلسطينية من أصحابها ومالكيها الشرعيين، وما إن حلت سنوات السبعين، حتى كانت إسرائيل قد أقرت ما لا يقل عن 30 قانونا لتنفيذ هذا المخطط.
فقد سارعت إسرائيل إلى وضع يدها على أملاك الفلسطينيين المهجرين من وطنهم، ورفضت حتى الاعتراف بملكية أبناء عائلاتهم الباقين في الوطن، ولم يكفها المهجرون إلى خارج الوطن، بل صادرت أيضا أراضي أولئك الذين باتوا لاجئين في وطنهم، بعد تدمير قراهم.
وفرضت إسرائيل مبدأ عرف بتسمية "الحاضر غائب"، إذ اعتمدت تسجيل الفلسطينيين في مناطق ما، ومن كان في منطقة أخرى وتسجل لاحقا، أو تغيب لسبب ما عن التسجيل في تلك الأيام، جرى اعتباره حاضرا غائبا، وتمت مصادرة أراضيه ووضعها تحت سيطرة ما يسمى بـ"حارس أملاك الغائبين".
كذلك فقد وضعت إسرائيل يدها على الأوقاف الإسلامية، التي كانت في فترة الحكم العثماني مسجلة باسم الدولة، كونها دولة إسلامية، وحينما جاء الاستعمار البريطاني، نقل لذاته السيطرة على هذه الأوقاف، ولم ينقلها للهيئات الإسلامية، ولاحقا اعتبرت إسرائيل نفسها حُكما استمراريا لمن سبقها وسيطرت على الأوقاف الإسلامية، كذلك كانت مصادرات واسعة بذريعة "الصالح العام"، وهذا "الصالح" كان لصالح اليهود فقط، كما جرى تقليص مناطق نفوذ القرى والمدن العربية، وهي ما تزال تواجه حالة اختناق.
وفي المحصلة، فإن الفلسطينيين الذين كانوا في العام 1948 يملكون 80 % من الأراضي في مناطق 1948، باتوا اليوم يملكون 3,5 % فقط.
مخاض سنوات السبعين الأولى
في أوائل سنوات السبعين صعّدت السلطات الإسرائيلية سياسة مصادرة الأراضي العربية، وفي هذه المرحلة كان قد نضج بين فلسطينيي 48 جيل ما بعد النكبة، الذي لم يعش أو لم يع رهبة العام 1948 وما بعده، وهذا الجيل الذي تثقف في سنوات الخمسين والستين على أدب وثقافة المقاومة والنضال، وبرزت في تلك السنوات أسماء الشعراء توفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش وأدب إميل حبيبي وغيرهم.
وفي حينه لم يكن على ساحة فلسطينيي 48 سوى إطارين سياسيين، أكبرهما الحزب الشيوعي، الذي كان إلى جانب شخصياته القيادية البارزة، شخصيات ومجموعات وطنية تؤيده من دون الانضمام له، وكان وحده يشارك في الحلبة البرلمانية، ولهذا كان الجهة الوحيدة التي تستقطب أصوات الوطنيين، في مواجهة الأحزاب الصهيونية.
والإطار الثاني كان "حركة الأرض"، التي ظهرت في النصف الثاني من سنوات الخمسين، وتحالف الإطاران لفترة قصيرة، وأقاما "الجبهة الشعبية"، ولاحقا صدر أمر عسكري بحل حركة الأرض، التي حاولت خوض الانتخابات البرلمانية في العام 1965 ورُفض طلبها، ثم شكل عدد من شخصيات وناشطي الحركة في مطلع سنوات السبعين حركة أبناء البلد، التي ما تزال تنشط حتى اليوم، وحتى حركة قومية يسارية.
في مطلع سنوات السبعين، بات الحراك الشعبي النضالي أقوى، وبدأت تتشكل أطر وطنية، بالأساس من الحزب الشيوعي وأيضا من حركة أبناء البلد، فرأينا لجنة الطلاب الجامعيين العرب، ثم اتحاد الطلاب الثانويين (مرحلة التوجيهي)، ولكن الحراك السياسي الأكبر كان في أكبر مدن فلسطينيي 48، مدينة الناصرة، فتشكلت في العام 1974 جبهة الناصرة الديمقراطية، تمهيدا لانتخابات المجلس البلدي، ونجحت هذه الجبهة برئاسة الشاعر الراحل توفيق زياد، بالانتصار في تلك الانتخابات بفوز ساحق، أطاح بحزب السلطة الحاكم عن البلدية.
وشكّل هذا الانتصار دفعة قوية جدا لنضال فلسطينيي 48 في شتى البلاد، وهذا ما انعكس أكثر لاحقا، فباتت غالبية المجالس البلدية والقروية في الانتخابات البلدية العامة في العام 1978، بأيدي الوطنيين.
وعودة إلى العام 1975، في ذلك العام بدأ حراك واسع جماعي وحدوي لإنقاذ ما تبقى من أرض، وعقد في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1975 مؤتمر وطني واسع، انبثقت عنه لجنة الدفاع عن الأراضي، برئاسة القس الراحل شحادة شحادة، الذي ودعه الشعب الفلسطيني في مطلع هذا العام 2011.
وفي شهر شباط (فبراير) من العام 1976، صعّدت السلطات الإسرائيلية بشكل خطير جدا سياسة مصادرة الأراضي، وقررت في ذلك الشهر مصادرة منطقة زراعية واسعة جدا، تدعى "منطقة المَل"، الواقعة بين قرى سخنين وعرابة ودير حنا، في منطقة البطوف، شمالا، وكان مصادرة تلك الأراضي يعني قطع أرزاق عائلات كثيرة، وهنا بدأ الغضب الشعبي يتصاعد، وزادت لجنة الدفاع عن الأراضي حراكها، وبدأ الحديث عن إعلان إضراب عام لفلسطينيي 48.
واجتمعت لجنة الدفاع عن الأراضي وقررت عقد مؤتمر آخر في مطلع آذار (مارس) من نفس العام وفي تقرر إعلان الإضراب العام في الثلاثين من الشهر ذاته، ليكون الإضراب العام الأول في تاريخ فلسطينيي 48، وسَعَت السلطات الإسرائيلية إلى إجهاض الإضراب عبر عقد اجتماع لرؤساء المجالس البلدية والقروية العربية في بلدية شفاعمرو، وكانت غالبيتهم الساحقة عربا من الأحزاب الصهيونية.
وكان الاجتماع الذي عقد في الخامس والعشرين من الشهر ذاته مشحونا، ورغم محاولات التزييف السلطوية، إلا أن 11 رئيس مجلس قروي دعموا الإضراب من أصل 50 رئيسا، وجرت محاولة اعتداء جسدي على رئيس بلدية الناصرة توفيق زياد في ذلك الاجتماع، بعد أن أطلق صرخته الشهيرة: الشعب قرر الإضراب"، ولاحظ الجمهور المرابط في الخارج ما يجري في القاعة ذات النوافذ الواسعة، فقرر اقتحام القاعة لإنقاذ الرؤساء الوطنيين، فهرب موظفو السلطة وأعوانها، وخرج الرؤساء المؤيدون محمولين على أكتاف الجماهير، ونشبت في الحال أولى المواجهات التي سبقت يوم الأرض، فسقط عدد من الجرحى وبدأت حملة اعتقالات واسعة.
ومساء التاسع والعشرين من آذار (مارس) وقعت المواجهات التالية في محيط قرية عرابة، فسقط الشهيد خير ياسين من القرية ذاتها، وفي اليوم التالي يوم الإضراب العام سقط خمسة شهداء آخرون، وهم خديجة شواهنة ورجا أبو ريا وخضر خلايلة من قرية سخنين (اليوم مدينة) ومحسن طه من قرية كفر كنا، ورأفت زهيري من مخيم نور شمس في الضفة الغربية ولكنه سقط في مدينة الطيبة.