بقلم: رشا فرحات
إلى أولئك الذي عاشوا، وماتوا، ولم نشعر بهم
بدون أي شيء
لأنه قد أفاق في ذات خريف فوجد أنه يتيم الأب، أصبح بلا أب، ولأن أمه في ذالك الخريف التالي تزوجت مرغمة، أصبح بلا أم، ولأن زوج آمه، لا يقوى على تربية أبناء غيره، أصبح بلا معيل، ولأن جديه هرما ولا يقدران على تحمل مشاكل طفل مثله، أصبح بلا مأوى، ولأنه استفاق في ذات يوم بارد، في شارع مظلم على حبات مطر تبلل ثيابه الوحيدة، ولأنه لا يملك ثمناً لثوب يشتريه في يوم عيد، منذ أن رحل العيد، أصبح جسده النحيل بدون مشاعر، ولأنه غدا في لحظة صدق ثقلاً معكوساً على كل شيء، أصبح أيضاً بدون احترام، ولأنه بدون احترام، جعلته الأيام بدون معنى، ولأنه بدون معنى، لن يسمعه أو يراه أحد، ولأن احد لم يره، ولن يراه، حمل أوجاعه فوق ظهره ورحل، وكالعادة، لم يشعر برحيله أحد .
إصرار وأمل
مد يده، تلك الثقيلة المرتبطة بجسد ثقيل مقعد على كرسي معدني يقاد كعربة، بعجلات مدورة ثقيلة، هي المحاولة العاشرة التي يمد بها يده الثقيلة، يحاول فيها التقاط كتابه من فوق الطاولة، وتلك أمه التي تجلس بعيدة ترقبه بصمت، تدفعه للمحاولة أكثر، يلتفت إليها يائساً، إنها المرة العاشرة يا أمي، يسقط الكتاب قبل أن يتقن إمساكه جيداً، لكنه معاق، هذا ما قاله ابن الجيران بالأمس، فكيف تحاول أمه وتحاول، ترمقه بنظرة جديدة، وبدفعة جديدة، تضحك، تقسم له بأنه سينجح في ذات مرة من تلك المرات، تواسيه بكلمات جديدة، في كل مرة تحكي كلمات جميلة، تزيد من قوة قلبه المنهزم الموجوع، فتعيده إلى الحياة وكأنه وقف لتوه ومشى، وأمسك ذلك الكتاب بخفة، وناولها إياه دون تعب، عيناها تلمعان من بعيد، بريقاً فيهما غريباً يحمل معنى الإصرار، تهز رأسها مبتسمة، وتقول" اعد المحاولة، ستنجح يا حبيبي"، يعيد المحاولة، ترتجف يداه، يسقط الكتاب على الأرض للمرة العاشرة.
وجع الانهزام
انه يوم إتمام الصفقة التي عقدها والدها منذ سنوات، وأدخلها شريكاً دون استشارتها، وعاونه أولئك الجالسون في مقاعدهم ينتظرون ثوبها الأبيض ليتفرجوا ويهتفوا مهنئين وعلى وجوههم علامات من فرح مفتعل، هي الفريسة إذن، هي من سيدفع ثمناً لصفقة لن تجني منها أي أرباح، نظرت إلى عيونهم وعاودتها الذكرى، حيث مل منها جميع من لجأت إليهم، وباتت مشكلتها ثقلاً على من كانوا يوماً أقرب الناس إلى قلبها الموجوع، آخرهم كان شقيقها الذي أعلن استسلامه، قائلاً بكل بساطة: أبي عنيد، قوي، ظالم، أذعني لأوامره وإلا هلكنا جميعاً، نظرت في المرآة، هل هذه النهاية، رجل لا تريده، وأب يعقد قرانها على قارعة الطريق، لأنه لا يستطيع رد طلب صديق العمر، فيدفعني ثمناً لصداقة كاذبة، اتشحت ثوباً أبيض اللون، غامق المعنى، وسارت مبتسمة أمام الحاضرين، لتؤدي دورها في المسرحية بإتقان، بعد أن احترفت التمثيل.
أحلام صغيرة
على الجهة المقابلة من الطريق وقف وحيداً مكشراً غاضباً وليس بغاضب، لم أشعر بوجوده، ربما لقصره وصغر سنه، ثيابه قديمة هالكة، وشعره مغبر يعد ترانيم عمر قد ضاع فجأة وفي لحظة لم تعد تذكرها طفولته. يحمل في يده إبريقاً من قهوة سوداء اللون، ويصب للمارة، فيعطونه بعضاً من قطع نقدية يخرجونها من جيوبهم، يرتشفون قهوته القديمة على عجل، أو لا يرتشفون، عيونه محدقة إلى ذلك الكيس الورقي الذي أحمله في يدي، وأنا لا اعرف، لا أفهم، لا أتصور، ملامح وجهه قد رسم عليها حزناً غامق الألوان، خلتها لا تضحك أبداً تلك الملامح، أو خلتها لم تعرف الضحك يوماً، أيقظني شيء فجأة وكأنها قرصة مؤلمة، دفعتني إلى الذهاب راكضة إلى حيث يجلس، وضعت الكيس في يده، قطعة خبز، وعلبة حليب، وبعض من الحلوى، ولدت ملامح وجهه من جديد ضحكت، أشرقت دون سابق إنذار، حمل الكيس فرحاً، ركض بعيداً وقد تحقق حلمه.