الرسالة نت - أمل حبيب
كانت ترقب من بعيد.. تنظر إلى جثة طفل صغير يجمعون أشلاؤه المتناثرة من على القبور.. اقشعر بدنها وظلت متسمرة في مكانها بالرغم من كونها غير معتادة على مشاهدة صور الدم أو الأشلاء.
لهج لسانها بالدعاء لوالدته بأن يلهمها الله الصبر على فقدان طفلها..اقتربت أكثر من شاشة التلفاز وكأن عاطفة الأمومة تخبرها بأنه اللقاء الأخير بابنها محمود.
أشلاء الشهيد محمود الجرو كانت خير شاهد على بشاعة الجريمة وكأنها تردد: أمي...ألم تعرفيني .. من حقك أن تجهلينني.. فصواريخ الاحتلال مزقت جسدي الصغير.. عذرا منك أمي فملابسي الجديدة التي وعدتك بألا تتسخ امتزجت بدمائي الطاهرة ..لا تحزني أمي وكفكفي دمعك وهوني على والدي ألم الفراق .
لماذا قتلوه؟
لم يكن ربيع هذا العام بتفتح الزهور وهبات النسيم العليل بالنسبة لعائلة الجرو فكان موعدها مع استشهاد الطفل محمود الجرو "10 سنوات" والذي طالته آلة القتل الصهيونية يوم الجمعة في الثامن من شهر ابريل الحالي .
يذكر بأن حصيلة العدوان "الإسرائيلي" على القطاع نهاية شهر مارس وبداية ابريل أدى إلى استشهاد 18 مواطنا بينهم 5 أطفال، أما عدد الإصابات فقد بلغ 52 إصابة بينهم 17 طفلاً، و6 سيدات.
الصدمة كانت كبيرة على والد محمود عندما تعرف على ابنه وهو أشلاء ممزقة على الأرض مجهول الهوية والناس من حوله يتساءلون أتعرفه؟؟ فكانت صرخة الأب المفجوع باستشهاد فلذة كبده "محمود...يابا" أسرع من أي إجابة أخرى .
بدأت الثكلى بسرد قصة استشهاد طفلها لـ"الرسالة نت" ولكن الدمعة سبقت كلمتها فقالت :" بعد تناولنا طعام الغذاء أصر محمود على الذهاب إلى بيت جده في حي الشجاعية حتى يريهم ملابسه الجديدة للمصارع جون سينا", وأضافت :" كان فرحاً بملابسه التي اشتراها له أخوه الأكبر محمد من أول راتب له ".
وكانت كلمات محمود الأخيرة لأخيه محمد حينما قال له ممازحا :" أول قبضة من شغلك تكسيني .. خلص انت أبويه" .
رفضت أم محمود خروج ابنها , ولكنه أصر على رغبته بالذهاب فقفز من شباك الغرفة، عندها أحست والدته بحركته فأمسكت به , ولكنه أخبرها بأنه يريد مساعدة جده في تنخيل الحصمة ووعدها بألا تتسخ ملابسه الجديدة.
لم تتسخ ملابس الطفل فقط , بل تمزقت وتلطخت بدمائه .. وأمه مازالت تتساءل :" لماذا قتلوا طفلا يلعب ؟ ..هل يشكل خطرا عليهم ؟ أم أنه أطلق الصواريخ على أطفالهم ؟.
بعد مساعدة محمود لجده اتجه إلى المكان الذي اعتاد اللعب فيه وهو مقبرة الشجاعية بالقرب من منزل جده , غير آبه بطائرات الاستطلاع التي غطت سماء المنطقة بحثاً عن فريسة جديدة .. فأطفال القطاع اعتادوا على صوت "الزنانات" تحلق فوق رؤوسهم .
وألقت طائرات الاحتلال بحقدها وغدرها الصواريخ على مقبرة الشجاعية فارتقى محمود شهيداً إلى العلا برفقة الشهيد بلال العرعير , وأصيب العشرات جراء القصف .
تدعو لنفسها
فلم تعتد أم محمود على مشاهدة الأخبار ولكن عند سماعها بالقصف على حي الشجاعية أخذت تقلب بالتلفاز تشاهد لقطة من أشلاء طفل صغير ثم تغيرها, ولكن سرعان ما ترجع عليها وتتأمل وكأنها تريد أن تحضن التلفاز.
وتقول الأم المترددة :" شعرت بالقلق حينها ولكنني كنت أطمئن نفسي وأدعو لذويه بالصبر ".
لم تكن تدري الثكلى بأنها تدعو لنفسها ولزوجها المفجوع برؤية طفله الصغير أشلاءً أمامه بالصبر والسلوان.
حاول جميع الأهل إخفاء نبأ استشهاد محمود عن أمه بسبب خوفهم عليها ولأنها وحيدة في المنزل , ولكن الثكلى أخذت تصرخ وتبكي بحرقة تنادي :" وينك يمه محمود ؟ وينك ؟ " .
قتل محمود قبل أن يكمل عامه العاشر فكان ينتظر المفاجأة التي وعدته بها شقيقته مادلين "13 عاماً" في يوم ميلاده في الثالث والعشرين من ابريل , تقول مادلين :" عملت جمعية مع صديقاتي بالمدرسة (...) كنت بدي أفرح محمود وأزين البيت ", وتابعت بحرقة :" خلص مات محمود ..قتلوه اليهود".
وتساءلت الطفلة مادلين :" لماذا يحرموننا من الحياة بأمان ؟ .. لماذا يقتلون الطفولة ؟ .
أما شقيقه محمد فتوعد بالثأر لدم محمود قائلاً :" بعد ما أحفظ القرآن راح أتعلم أجاهد ".
صور محمود التي علقت في أرجاء المنزل كانت تضفي على المكان رائحة الطفولة البريئة ولكنها مسلوبة من أبناء فلسطين فصغيرهم مستهدف قبل القائد والكبير.
دفن محمود في نفس المقبرة التي أحبها واعتاد على اللعب بجوارها ..فهنيئاً لك محمود وهنيئاً لمن لقي ربه شهيدا على أرض الرباط.