قراءة: رشا فرحات
انه بهاء طاهر، الكاتب البسيط المميز، ذو التعبيرات الكثيفة العميقة الشيقة، دون تكلف، المبدع حداً يأخذك إلى تفاصيل جميلة دقيقة بسيطة، وكأنها حقيقة وقعت أمام عينيك، خالتي صفية والدير، رواية لا تحمل تلك التفاصيل المبالغة، والتي يحشوها بعض الأدباء حشوا لعرض أكبر في رواياتهم، إنها رواية تقع في مائة وثمان وثلاثين صفحة، فهي قصيرة نسبياً ولكنها مكتنزة وفيرة المعاني والتعبيرات، رواية تستحق القراءة.
وللحديث عنها باختصار فإن الرواية تحكي قصة " صفيّة الفتاة الجميلة التي تعشق (حربي) الشاب القوي والوسيم، ولكن حربي لا يشعر بحبها بل يتوسط في زواجها من الباشا، قريبه العجوز، فلا تغفر له صفية ذلك وتقرر الانتقام"، وهذا اختصار يعد ظالماً ومتجاوزاً ذلك الإبداع الذي تتخلله تفاصيل أحداث هذه الرواية، ولكن البطلين الأساسيين الذين تحركت الأحداث كلها ودارت حولهما هما بالذات، (صفية) و(حربي)..
تظهر علامات الغنى والمال على صفية الفقيرة اليتيمة، بعد زواجها من الباشا، ثم تنجب منه ولداً ذكراً، هو الذي لم يكن يحلم بأنه سينجب أبداً، لكبر سنه، ثم تقع بينه وبين حربي قريبه الذي يدير كل ممتلكاته، خلافات بسبب شك الباشا بأن حربي يحاول أن يقتل ابنه ليكون هو الوريث الوحيد لأموال الباشا، ثم يموت الباشا على يد حربي الذي كان يدافع عن نفسه من تهجمات الباشا المفاجأة له والتي كادت أن تودي بحياته، وهنا تبدأ أحداث الرواية بالتصاعد والتعقيد، حينما تنذر صفية نفسها وابنها وحياتها ومالها، فتتوقف عن التفكير بأي شيء في ملذات الدنيا حتى تأخذ بثأرها من حربي الذي قتل زوجها الباشا، ويتم أبنها، والتي تظهر كذريعة تتذرع بها صفية الجميلة المجروحة بسبب عدم إحساس حربي بها منذ البداية وهي التي كانت تحبه في كل لحظة، ويتضح ذلك بعد وفاة حربي أثر مرض الم به، حيث تموت صفية بعد وفاته مباشرة.
وأية محاولة لاختصار هذه الرواية في سطور قليلة هو ظلم لكل حدث شيق كتب في تلك السطور، لما له من أهمية بالغة، فهي رواية تحكي عادات وتقاليد أهل الصعيد في مصر، بأسلوب شيق مميز، تحكي احترامهم لأديانهم، تحكي عن جهلهم في بعض عادات يتمسكون بها، وتحكي أيضاً عن غرابة معيشتهم وطقوس فرحهم وأحزانهم.
ولعل أهم ما لفت نظري في سطور هذه الرواية، هي الرسالة الجميلة التي تصف علاقة المسلم بالمسيحي، وهي علاقة الأخوة والإنسانية، والجيرة، فهم يرسلون لهم كعكا في أعيادهم الإسلامية وأولئك يرسلون لهم بلحا مسكرا بين الحين والآخر من بلح نخيل الدير الذي لا يطرح مثله أي نخل في البلدة.
وفي نفس الوقت تطرقت الرواية إلى أحاديث القتلة وقطاعين الطرق والسكارى، ولكن بأسلوب جميل باتت تفتقده الرواية الحديثة المعاصرة.
ظهرت براعة بهاء طاهر هنا في أنه أدار تلك الأحداث كلها بشكل جميل وأسلوب سردي بسيط سهل سلس ممتع جداً ومتماسك في الوقت ذاته، حيث استخدم البيئة والشخصيات كلها أفضل استخدام، كما أنه لا يطيل في السرد إلا لضرورة ولا يزيد أو يقصر إلا لضرورة، وفي كلاهما هو سارد بارع: حيث تتجلى قدرته على الجمع بين عدة مواقف وإظهار عنصر الزمن والبيئة في فقرة واحدة دون إسهاب، كما إنه حين يطيل يطيل لضرورة فهو حيناً يصف تفاصيل البيئة التي ستلعب لاحقاً دوراً ما في الأحداث ولا يزيد عن ذلك بتفاصيل غير مهمة.
كما تمكن بنجاح كبير من إدارة القصة كلها من منظور الراوي وحده حيث لم يتطرق إلى وصف المشاعر الداخلية أو أفكار الأشخاص الآخرين غير الراوي، وإنما ترك للقارئ مهمة استنتاج تلك المشاعر والأفكار من خلال وصف الانفعالات الخارجية للشخصيات، كما أنه يذكر الحدث ويضع حوله علامة استفهام تدفع القارئ دفعاً إلى متابعة الرواية باهتمام ودقة فيلتقي بأسلوب الحكي الممتع البسيط الذي يمهد له طريقاً سهلاً لاكتشاف الإجابة ومعرفة الحقيقة أو الحقائق الخفية..
بهاء طاهر، الاسم المضيء في عالم الرواية المصرية هو لمحمد بهاء الدين عبد الله طاهر، المولود في الجيزة قرب القاهرة في بدايات عام 1935، لأبوين ينحدران من الكرنك – الأقصر في صعيد مصر، درس في الجيزة وأتم دراسته الجامعية في جامعة القاهرة وتخرج فيها عام 1956 (ليسانس تاريخ)، ولاحقاً أكمل دراساته العليا في مجال التاريخ الحديث (1965)، وفي مجال وسائل الإعلام (1973).
حصل على جائزة الرواية العربية عن روايته المميزة ( واحة الغروب)..وهو يستحق ذلك بجدارة