قائد الطوفان قائد الطوفان

( إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا )

يقول سبحانه وتعالى : ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (سورة النساء 128)

لقد حثنا الشارع الحكيم على أن نصلح أنفسنا ونصلح غيرنا ، وإذا ما اختلفنا في شيء ووصل الأمر إلى الشد والجذب ثم تطور إلى شجار ، فالأفضل أن نهرع جميعاً إلى الصلح ، ولا نهرع إلى الاقتتال لما فيه من شحناء وبغضاء نتيجة تعرض بعضنا إلى بعض بما يسيئه ، بالحق أو بالباطل ، هذا في أي شأن من شئون الحياة الدنيا ، وقد يظن البعض أنه مختص بالزواج والطلاق أو الأحوال الشخصية فحسب ، وأنا أزعم أن الصلح يجب أن يهرع إليه في كل الأحوال ، ويجب أن يهرع إليه كل عاقل ، أما من زاغ عن السبيل الحق ، وأراد الباطل ولو بقوة العضلات وما لديه من إمكانيات ، فيجب أن يقف المسلمون منه موقفاً يجعله يفكر مليِّاً قبل أن يقدم على أي فعل مهما كان ، ولو أدى إلى قتاله لردعه عن غَيِّه ، ولرده إلى الحق الذي تكبر عنه ،  والطريق المستقيم الذي ترتضيه الأمة ، ولا تجتمع الأمة على ضلال .

وهذا مصداق قوله سبحانه وتعالى : (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (سورة الحجرات 10) ولقد ثبت أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان يرسل حكمين اثنين ليصلحا بين الزوجين فيما بينهما من خلاف ، أحدهما من أهله والآخر من أهلها ، فإن أصلحا بينهما كان الخير ، وإلا عاقب أمير المؤمنين رضي الله عنه  الرسولين اللذين أرسلهما ، مستعيناً بفهمه الثاقب من قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (سورة النساء 35) إنهما حكمان ، وانظر أخي المسلم إلى كلمة (حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا) إنهما ليسا حكمين فقط ، ولكنهما يحملان الحكمة ، ويتحليان بها ، ويجب أن يحتالا لتوصيل الطرفين إلى الإصلاح بينهما أو الحكم الذي ينفذ بينهما بحيث يكون موافقاً لمراد الله في شرعه القويم .

لقد فهم أمير المؤمنين قوله سبحانه : ( إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ) أي الحكمين اللذين أرسلهما ، ويقول لهما : لو كان عندكما النية للإصلاح بينهما لوفق الله بينكما . ولا يمنع أن يحتمل النص القرآني الكريم هذا المعنى وغيره من المعاني . وهذا ما كان عليه الحال في قضية إنهاء الانقسام بين شطري الوطن في الضفة الغربية وقطاع غزة ، وما كان عليه الوسيط المصري السابق ، والذي كان يرفض أن يدخل معه وسيط آخر ، كما كان يرفض كل المبادرات الأخرى لتقريب وجهات النظر بين الإخوة في حماس وفتح .

ولكن لما تغيرت الوجوه – أعني اللواء عمرو سليمان فقط ، لأن باقي أركان وزارته ما زالوا على عملهم ، ويعملون لصالح المصالحة – تلك الوجوه التي كانت تأبى أن يصطلح الطرفان من الفصيلين الكبيرين في فلسطين ، ليبقى الخلاف سيد الموقف ، فلما تغيرت الوجوه الآمرة والمتنفذة ، والتي جعلت من كلامها أعلى من القرآن الكريم ، إذ إن القرآن الكريم هو كلام الله العظيم ، ويحتمل وجوهاً كثيرة ، أما كلام هؤلاء فهو الكلام الفصل الذي ما بعده إلا الهزل ويأبى أصحابه أن يفهم بغير ما أرادوا هم ، فكانت الشقة تتسع ولا تضيق بفضل تعنت الوسيط غير النزيه ، والذي ثبت أنه كان يأتمر بأوامر خارجية حتى يبقى الطرفان على خلاف ، وحينها لن يجتمع شمل الفلسطينيين على شيء ، ما دامت الأغلبية منقسمة هذا الانقسام ، ومختلفة هذا الاختلاف .

وما زاد الطين بلَّة أننا كنا نشعر أن الوسيط يتعامل معنا على أنه الفرعون ، ويجب على الجميع أن يسمع له ويطيع ، كما كان فرعون يقول لشعبه : ( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (سورة غافر29) ولا يريد ما اتفق عليه الطرفان . إذن هو لا يريد أن يجمع الطرفين على المصالحة التي يتفقان عليها ، وإنما كان وجوده ضامناً لوجود الخلاف ، ضامناً لعدم الاتفاق ، لما فيه مصلحة العدو الإسرائيلي ، لأنه لا يستفيد من خلاف أكبر فصيلين موجودين على الساحة إلا العدو الإسرائيلي ، وكأني بهذا يقدم الوسيط المصري السابق ( اللواء عمرو سليمان ) بين يدي نجواه – منصب الرئاسة التي كان يطمع فيه - ما يؤهله ويغري الأعداء بتنصيبه أو التوصية بتزكية لمنصب الرئاسة . فخاب ظنه ، وطاش سهمه ، وأخلف الله عليه ما كان يرنو إليه ، ويخطط له ، على حساب شعبنا في الحصار الشنيع الذي تمالأ مع الأعداء فيه ، والذي وصل إلى أن يبني جداراً فوق الأرض ، ويبني جداراً تحت الأرض يصل إلى 25-30متراً مزوداً بأنابيب تضخ المياه من البحر ليمنع الطعام والشراب والدواء الذي يحاول شعبنا أن يكسر الحصار بالحفر تحت الأرض عشرات الأمتار .

فها هو الشعب المصري الأبي قام بمشروعه الانتفاضي السلمي في ثورة 25/ يناير المجيدة ، والتي نعتبرها ثورة من أجل فلسطين والقدس ورفع الحصار المشين كما قال وزير الخارجية المصري الجديد وفقه الله ، وليزيح الطاغية وزبانيته التي كانت تأتمر بأمره ، وتنفذ ما يخالف تطلعات الشعب المصري الذي بذل من دمه وعرقه وأبنائه عشرات الآلاف للدفاع عن حياض الأمة ، فإذا بهؤلاء المتحكمين بمقاليده يخونون الله ، كما يخونون الشعب المصري الذي أقسموا على المصحف للحفاظ على أمنه وأمانه في سلمه وحربه ، والحفاظ على مقدراته من التبديد والاعتداء عليها ، فإذا بهم كما يقول المثل الشعبي ( حاميها حراميها ) قال تعالى في شأن هؤلاء (فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (سورة الأنفال71) ، ونحن نتطلع إلى أن يقوم شعب مصر الأبي بمحاسبة هؤلاء ، حتى يشعر كل من يأتي بعدهم بأن عيون الشعب مفتحة وساهرة ، وستحاسب كل من يعبث بمقدرات الأمة .

فهل يعقل أن يباع الغاز المصري لأعداء الشعب المصري بأقل الأثمان – مصر تخسر ثلاثة مليارات دولار في السنة بصفقة الغاز لإسرائيل – بينا لا يجد عوضين ومحمدين وعمو سيد ما يشعلون به نارهم ، يوقدون به قدرهم ، وهم يرون غازهم يباع لأعدائهم بصفقات فيها خسة ونذالة وخيانة ، تحت دواعي مصلحة البلد وإغراءً لإسرائيل حتى لا توعز لأمريكا – عبر مجلسي الشيوخ والكنجرس - أن توقف المساعدات والتي ثبتت أنها مسيَّسة ، وثبتت أنها من وراء تكريس الانقسام بين أبناء الشعب الفلسطيني .

فهلا عاقب الشعب المصري الوسيط غير النزيه مقتدياً بما كما كان عليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من معاقبة الوسيطين ، لما جروا على مصر من فشل في السابق ، مع أن الطاقم المصري العامل في مجال المصالحة الفلسطينية لم يتغير كثيراً ، إلا من تغييب كبيرهم الذي علمهم الكبر ، وجر عليهم الفشل . فكم نحن بحاجة إلى فهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كثير من المواقف الراهنة .   

البث المباشر