الرسالة نت - ميرفت عوف
على الرغم من الاهتمام المؤسساتي في مختلف بقاع الوطن الفلسطيني والشتات بخلق حالة من التفاعل بين المنهج العلمي والفهم الصحيح للرواية الشفوية الصادقة القائمة على حقائق يدلي بها من عاصروا الحدث إلا أن ما أنجز من كتابات في التاريخ الشفوي الفلسطيني ما زال قليلاً بالنسبة لحجم المأساة والمعاناة التي تكبدها الفلسطينيون أثناء وبعد النكبة.
العوائق التي مثلت أمام الاهتمام بالتاريخ الشفوي الخاص بالنكبة على وجه التحديد كثيرة، منها عدم إعطاء الجهد الكافي لجمع الروايات الشفوية ممن عاصروا النكبة سواء ماديا أو علميا، إضافة لعدم وجود أرشيف موحد لكل ما تم جمعه، ناهيك عن تفاوت نوعية وجودة حفظ المادة المسجلة، بالإضافة إلى موسمية العمل.
"الرسالة نت" في التقرير التالي ترصد تلك المعوقات، وغيرها، التي تقف حائلاً أمام التاريخ الشفوي، وتستبصر الحلول للارتقاء بهذا التاريخ.
مع اختلاف جهود تدوين الرواية الشفوية لأحداث النكبة من منطقة إلى أخرى بالأراضي الفلسطينية المحتلة، تؤكد حنين جريس الباحثة بالتاريخ الشفوي أن أروع هذه الجهود كانت في الداخل المحتل عام 48 حيث تقطن وتزاول عملها. هناك ما زال من عايش الحدث في مكانه الذي سيفرض عليه لحد ما الدقة في الوصف والحديث.
تقول جريس لـ"الرسالة نت": "شهدت السنوات الأخيرة جهدا رائعا للتاريخ الشفوي لنكبة عام 48 والتاريخ الفلسطيني عموماً قبل النكبة على الرغم من كم الضغوط والممارسات الإسرائيلية بالقمع والتخويف والإرهاب لإنهاء التأريخ وكبته في صدور القائمين عليه إلا أن المبادرات الفردية أو المؤسساتية تجاه التاريخ الشفوي قامت بواجبها لحد ما.
وانتقدت جريس عدم وجود أرشيف يجمع كل الكتابات والمبادرات يوضح حجم العطاء في هذا المجال .
ولا تنكر الباحثة أن الأرشيف الموجود حالياً والوحيد هو الإنترنت ومن خلاله توجد مئات الحكايات عن تاريخنا، ولفتت إلى وجود تقصير من الحكومات والمؤسسات الرسمية في الأراضي المحتلة 48 لا تدعم التوثيق الشفوي للفلسطينيين.
وأضافت: "علينا أن نؤمن أنه إذا وجد عمل صحيح لتأريخ الرواية الشفوية لأحداث النكبة يمكن جلب التمويل من الخارج"، وبيَّنت أن ما نحتاجه وضع موضوع التاريخ الشفوي في سلم أولوياتنا.
أهمية التاريخ الشفوي
رئيس مركز التاريخ الشفوي في الجامعة الإسلامية سابقا د. رياض شاهين يعود بذاكرته إلى حقبة احتلال البريطانيين عندما تولوا عملية تدوين الأحداث في سجلات ومحاضر رسمية وصفها بأنها "تلطف من المقاطع التي تهم بلدهم" .
ويشدد على أن الندرة الكبيرة في التدوين التاريخي لأحداث النكبة دعا الباحثين والمؤرخين في الفترة الحالية إلى الرجوع الرواية الشفوية لتغطية تلك الفترة الزمنية، فبدءوا تدوين الرواية من أناس عاصروا تلك الأحداث ليؤرخوا لها.
وبيّن الباحث أن كثيرا من الشعوب اعتمدت على الرواية الشفوية في التأريخ لأحداث هامة في تاريخها، موضحاً أن اليهود اعتمدوا على الرواية الشفوية في ادعائهم بقضية الهولوكوست والمذابح النازية التي حدثت ضدهم في ألمانيا خاصة في ظل الافتقار لمؤرخين يدونون تلك الأحداث رسميا.
"اليهود اعتمدوا على الرواية الشفوية فقط من أناس ادعوا أنهم شهدوا تلك المعاناة واعتبروا شهاداتهم المفتراة شهادة قانونية دولية"، كما يؤكد رئيس مركز التأريخ الشفوي، منوها إلى أنها قُدمت في المحاكم الرسمية الدولية بأوروبا وبناءً عليها عوضوا بملايين الدولارات.
وشدد على ضرورة أن يهتم الفلسطينيون من باب أولى الاعتماد على الرواية الشفوية لتدوين الأحداث والمجازر والمذابح الرهيبة التي ارتكبت بحقهم في العام 48، خاصة وأن أناسا كثيرين مازالوا إلى هذه اللحظة وكانوا قد عاصروا تلك الأحداث ومروا بتلك التجربة.
ودعا الباحث شاهين زملاءه والمهتمين بتدوين التاريخ الفلسطيني إلى الإسراع في عمليات التدوين كونهم في صراع مع الوقت برحيل أولئك المعاصرين للنكبة.
تقصير واضح ودعم مفقود
ورداً على سؤال لـ" الرسالة نت" حول قيام المؤسسات والمعنيين بجمع التاريخ الشفوي بدورهم في جمع ما يتعلق بالنكبة، أجاب شاهين: "مازال هناك نقص وقصور ومازلنا بحاجة ماسة للاهتمام بهذا الجانب"، مؤكدا أن ذلك يتحقق بدعم المراكز وتطويرها والاهتمام بها من أجل تغطية تلك الأحداث لأنها كثيرة ومؤثرة ومؤلمة وشدد على ضرورة الإسراع في ملاحقة الناس الذين عاصروا أحداث النكبة وتدوين ما عانوا منه.
وأرجع شاهين أسباب تقصير المؤسسات المعنية بالتاريخ الشفوي بتدوين وجمع الروايات الشفوية ممن عاصروا أحداث النكبة، إلى الافتقار إلى حكومة، أو مؤسسة رسمية تهتم وتتبني تلك المراكز، مبيناً أن تلك المراكز فقيرة من الناحية المادية والمعنوية من حيث الدعم والتأهيل.
ودعا إلى ضرورة وجود حاضنة لها من الحكومة والجهات الرسمية للاهتمام والارتقاء بها ودعم مشاريعها من أجل مساعدتها في استكمال مشوارها في جمع التاريخ الشفوي، قائلاً :"أنه على مدار ما يزيد من أربع سنوات من رئاسته لمركز التاريخ الشفوي بالجامعة الإسلامية لم يتلق المركز أي دعم من أي دولة أو مؤسسة خارجية أو داخلية رغم مخاطبتهم كافة الجهات المسئولة".
وأكد الباحث شاهين أن الاحتلال الصهيوني في المقابل يدعم بكثافة مراكز التاريخ الشفوي لديه ويؤهل الروايات المفتراة لأن تكون روايات قانونية دولية في ظل الدعم اللا محدود مادياً ومعنوياً من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
بحاجة إلى عمل مؤسسي شامل
الباحث في شؤون اللاجئين والتاريخ الشفوي، وعضو لجنة الرقابة في المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، د. نايف جراد يعتبر أن ما تم إنجازه من عمل في جمع الرواية الشفوية للأحداث الفلسطينية وبخاصة النكبة جيد، وأضاف أن ما دوِّن دحض المعلومات التي جاءت بها الرواية الصهيونية عن النكبة، وأبرز الكثير من الحقائق في التاريخ الفلسطيني وأحيا التراث.
ويشدد جراد على ضرورة الاستزادة في الاهتمام بالتاريخ الشفوي بما يعزز عملا مؤسسيا ممنهجا وشاملا مؤكداً أن ذلك يتم من خلال التنسيق والتشبيك مع المراكز المهتمة بجمع التاريخ الشفوي والعمل على إيجاد لجنة وطنية تشمل الداخل والشتات تقوم بوضع خطة وطنية موحدة وشاملة تستهدف حصر الأرشيفات المتوفرة.
ويرى الباحث أن ضعف المستوى العلمي لكثير من الأعمال والمواد المسجلة، وتدني مستوى الفائدة من المعلومات المجموعة، بالإضافة إلى عدم إتاحة المجال للباحثين للوصول إلى كثير من الأرشيفات، وضعف التقنيات المستخدمة قللت نجاعة ما جمع عن التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية.
ودعا إلى ضرورة إيجاد منهج موحد للبحث والاعتماد على التراكمات في العمل وكذلك الاعتماد على مصادر جديدة في البحث وتدريب الباحثين بشكل أكبر لعدم تكرار المواضيع المبحوثة مسبقاً من أجل الوصول إلى تدوين تاريخي مميز للأحداث الفلسطينية وقت النكبة.
جهل بأهمية التوثيق
عادل يحيى، مدير المؤسسة الفلسطينية للتبادل الثقافي يقول أن حجم الجهد المبذول في جمع التاريخ الشفوي الخاص بالنكبة أقل من أهمية الحدث بكثير، وأضاف لـ" الرسالة نت" :"إذا ضربنا الهولوكوست الصهيوني مثالا للمقارنة نجد أنهم جمعوا عنه مئات ألوف الشهادات بينما أحداث النكبة التي لا تقل أهمية وخطورة عنه فلم تتجاوز عدد الروايات التي جُمعت عنها المئات فقط".
وبيَّن أن أهم العوائق التي وقفت حجر عثرة أمام جمع الروايات الشفوية للتأريخ لأحداث النكبة الجهل بأهمية التوثيق وجمع الخبرات واستخدامها في تغيير موقف سياسي للفلسطينيين، بالإضافة إلى عدة عوائق أخرى كضعف الإمكانيات المادية للمهتمين نتيجة عدم وضوح الأولويات الخاصة بشعبنا.
وشدد الباحث في شؤون اللاجئين على أن عدم إيلاء جمع الرواية الشفوية لأحداث النكبة أهمية قصوى ووضعها في سلم الأولويات كان سبباً في تضاؤل حجم الجهد المبذول مقارنة مع ما هو مطلوب، مستدركا: "لا أنفي بذلك وجود جهد تماماً في عملية تدوين الرواية الشفوية ولكنه أقل بكثير من المطلوب".
وأكد أن عملية تدوين الرواية الشفوية في صراع مع الوقت، موضحاً أن السنوات الماضية التي لم يهتم بالتدوين الشفوي فيها خسرت كثيراً نظراً لانقضاء آجال المعمرين الذين عاصروا النكبة، وأضاف أنه بات من النادر وجود أشخاص كانوا في زمن النكبة بعمر 12 عاماً على الأقل ليرووا الآن تفاصيلها، طبقاً لقوله.
وشدد يحيى على أن سبيل الإنقاذ للرواية الشفوية بات متأخر جداً، مؤكداً على ضرورة العمل والاهتمام بتدوين الرواية الشفوية للأحداث والقضايا المعاصرة التي تلحق بنا ويعمد الاحتلال إلى تزويرها وروايتها من وجهة نظره.