غزة -عدنان نصر
منذ أمد بعيد؛ وقبل أن يتعالى رنين نقص السيولة النقدية التي ترقص البنوك على مزاميرها في قطاع غزة، يعاني أصحاب الحوالات المالية ومستفيدو الشئون الاجتماعية من استغلال البنوك التي تجتزئ نسبة غير معقولة من أموالهم، وفق شاشة خاصة بسعر الصرف تحددها سلطة النقد للبنوك من المستحيل تقاطعها مع أسعار الصرف في السوق السوداء.
فلماذا تختلف أسعار العملات في البنوك عن السوق السوداء؟ وهل هناك قوانين تسمح بتلك الفروقات، أم أن المسألة تخضع لأهواء ومزاج البنوك مع تذبذب أسعار العملات؟ ومن الذي يحدد سعر الصرف للشاشة الخاصة بالبنك؟ ولماذا تغيب الجهات الرقابية لتطلق العنان لسلب وإهدار حقوق المواطن؟
** حوالة مجتزئة
يحتدم نقاش ساخن بين المواطن كارم الغرابلي(29 عاما)، والموظف المسئول عن صرف حوالته المالية التي تصله كل شهرين بانتظام عبر البريد السريع " Western Union" بقيمة 1000 دولار، ففي كل مرة يحاول الغرابلي الحفاظ على رباط جأشه كي لا تثور أعصابه؛ لعدم استلامه قيمة الحوالة بالعملة المرسلة اليه ، فالموظف يتذرع دائما بنقص السيولة الواردة للقطاع المحاصر، مما يدفعه في النهاية لصرف الحوالة مقابل فئة الشيكل.
وتستشيط عيونه غضبا مع كل حوالة جديدة قائلا: أتعرض كل شهرين لمحاولة سلب ونهب تحت ذريعة نقص السيولة، مما يضطرني لقبول الأمر الواقع، واستلام قيمة الحوالة بالعملة المتوفرة، ويضيف بنبرة المغلوب على أمره" يعدل الموظف قيمة الحوالة بناءً على سعر الصرف في البنوك، التي تفرق كثيرا عن سعر السوق، ففي كل مرة تنتابني خسارة لا تقل عن 120 شيكلا عند تبديل قيمة الحوالة بالدولار من السوق السوداء.
وتجني البنوك أرباحا خيالية مع مطلع كل شهر عند استلام رواتب مخصصات الشئون الاجتماعية، فالمواطن مازن خليل (38 عاما)، ينتظر بلهفة صرف رواتب الأسر المعدومة التي تقدمها الحكومة الايطالية بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي لـ30 ألف عائلة يعيشون تحت خط الفقر في قطاع غزة.
يقول خليل الذي من المفترض أن يتقاضى 1000 شيكل لراتب الشهر الماضي: تذرع البنك بنقص السيولة النقدية لفئة الشيكل، وصرف رواتب الشئون الاجتماعية بقيمة 200 دولارا ، و150 شيكلا؛ بسبب شماعة العجز المذكور، ويضيف بسخط: قام البنك بمعادلة ال200دولار بقيمة 850 شيكلا، مع العلم أن سعرهما كان في السوق السوداء 810 شيكلا، متسائلا لماذا تلك الفروق الشاسعة مادام البنك يتقاضى على كل حوالة 15 شيكلا من الاتحاد الأوروبي، ولماذا لا تتم معادلة الراتب على سعر السوق السوداء.
ويصمت لبرهة من الوقت محاولا إجراء عملية حسابية بذهنه المشتت، فيعجز عن الوصول لرقم حقيقي يستفيد منه البنك جراء صرفه لمخصصات الشئون الاجتماعية التي يبلغ عددها 24500 أسرة فقيرة بين شطري الوطن.
** شماعة واهية
ويعزو الخبير الاقتصادي الدكتور محمد مقداد اختلاف أسعار العملات في البنوك عن السوق السوداء؛ بسبب الحصار وعدم الحرية في دخول وإخراج العملات من خارج القطاع، موضحا أن الحصار المالي، وغياب الرقابة عن عمل المصارف أدى إلى اختلاف جوهري في سعر العملات.
وقال أستاذ الاقتصاد في الجامعة الإسلامية: لا يوجد في قطاع غزة قوانين مرتبطة بالنظريات الاقتصادية تحكم الناس، فالبنوك تواجه مشكلة أمام انخفاض الدولار الذي يشهد حالة من التذبذب وعدم الاستقرار، مضيفا البنوك تحاول أن تتعامل مع واقع السوق السوداء، وتجير تلك الفروقات الشاسعة لصالحها لتحقيق أقصى ربح، فهي تعمل بحرية مطلقة بعيدا عن سيطرة الحكومة.
بينما يعلل الخبير الاقتصادي الدكتور عادل سمارة أوجه الاختلاف؛ بسبب ارتباط البنوك بقرارات البنك المركزي وسلطة النقد التي تحدد أسعار العملات بشكل رسمي، مبينا أن البنوك لديها ضمانات رغم تقاضيها عمولة أكثر من السوق السوداء، بينما السوق السوداء غير مقيدة بِأسعار محددة، وتتميز أنها غير خاضعة للضريبة وتعطي فرق أسعار أكثر من البنوك، كما أن عملية غسيل الأموال في السوق السوداء أسهل من البنوك.
**فروق شاسعة
وبخصوص تحديد سعر الصرف في البنوك يرى سمارة أن تحديد سعر الصرف للشاشة الخاصة بالبنوك يتم بواسطة البنك المركزي أو سلطة النقد ، التي تقوم بمراقبة أسعار العملات وفق البورصات الدولية، ومن ثم تحديد سعر الصرف للعملات محلياً، منوهاً إلى أن تحديده يندرج في إطار سلسلة من المجموعات لها علاقة مع بعض التبادلات والمقصات بين البنوك.
بينما يشير مقداد إلى أن بيع وشراء العملات قضية خاصة بالبنوك، بسبب وجود سوق المنافسة بينها، لذلك لا تتعامل مع الجمهور في تلك القضية، الأمر الذي يدفعهم للسوق السوداء، أو مكاتب الصرافة؛ بسبب الفروق الجوهرية في الأسعار، لكن غالبا ما ترغم البنوك المستفيدين على قبول أسعارها عند استلامهم لحولات مالية من الخارج.
** تحيز رقابي
وفيما يتعلق بدور الجهة الرقابية وحماية المواطن يعتقد مقداد أن الانقسام الحاصل أدى إلى غياب سلطة النقد الجهة الرقابية المخولة على سير عمل البنوك؛ بحيث أصبحت في واد، وحكومة غزة التي لا تنوي عمل سلطة نقد في واد آخر، أملاً في الوفاق بين الطرفين، بالإضافة إلى عدم تدخلها في البنوك، مما دفعها للقبول بأقل الأضرار، وترك البنوك تعمل بحرية مطلقة حتى لا يجمد العمل المصرفي.
أما سمارة فيقول بوضوح: لا أعتقد أن هناك ثمة تجاوزات، فالبنك يطبق قوانين رسمية، والمواطن له حق الاختيار في التعامل مع البنوك، ويضيف" المواطن حمايته غير مطروحة على أجندة البنوك، التي تفضل حماية المؤسسات المرتبطة بالسلطة الحاكمة، وتحديد مصالح رؤوس الأموال حسب قانون النظام الرأسمالي.
وفي هذا السياق يقول الدكتور علاء الرفاتي مدير البنك الوطني الإسلامي: هناك نظامين لسعر الصرف في فلسطين هما : النظام الحر الذي يتم بناء على سعر الطلب والعرض، والنظام المقيد الذي تفرضه الدولة، ومن المفروض التعامل مع النظام الأول، ونظرا لعدم توافر العملات الصعبة تلجأ البنوك للتعامل مع سعر الشاشة الصادرة عن سلطة النقد في الضفة الغربية، مشيرا إلى أن تحديد سعر الصرف يتم من خلال نشرة الارتباط مع السوق الرئيسي لسوق رأس العمل.
ويضيف الرفاتي الذي يتعامل بسعر الصرف حسب شاشة سلطة النقد أيضا: تستفيد البنوك من تلك الظاهرة بشكل كبير، فتعرض على العميل سعر الصرف حسب سعر اللوحة المغاير للسوق السوداء، والمفروض أن تعمل الحكومة مراقبة على ذلك لحماية المواطن ، أو توفير الكمية اللازمة للسوق السوداء التي تتماشى مع الطلب والعرض.