قراءة/ رشا فرحات
رواية الزهير ليست رواية عادية، بل هي رواية تحمل بعدا فلسفيا تأمليا يفوق الحد ويبدو مبالغا فيه بكثير من السطور، وهي رواية مميزة من روايات كاتب المميز باولو كوليو، ولعلها ليست رواية خيالية بالقدر الذي تحمله من واقعية كما يقول كثيرون، حيث ما يميّز رواية (الزهير) أنها رواية السيرة الذاتية للكتاب، هي الرواية التي سرد فيها الكاتب جزءا مهما من حياته وكتب عن أعماق نفسه، وعن كيفية تحوله من كاتب أغان إلى روائي ناجح.. ولهذا فإن هذه الرواية أشبه بسيرة ذاتية، ولكن ما ينقذ الكاتب من كونها كذلك دخوله في تفاصيل جديدة وجغرافيا جديدة للرواية، لكن بعضا من سطورها وبعضا مما ورد فيها من معلومات ينطبق على شخصية باولو كوليو نفسه، وليس على مستوى السرد الواقعي، وإنما على مستوى السرد الفكري والعاطفي والأسطوري والعقائدي.. حيث بثّ في الرواية أدق التفاصيل عن أسلوبه في الكتابة والصعوبات التي واجهته، بل حتى ما يسميه باولو (بنك الخدمات) الذي نكتشف أنه موجود فعلا، وأنه ركن مهم من أركان النجاح في الكتابة والشهرة.
وتتلخص قصة الرواية في كاتب مشهور تختفي زوجه (استر) -وهي صحافية ومراسلة حرب- في ظروف غامضة دون أي تفسير.. هل اختطفت؟.. هل تعرضت لحادث؟.. هل هجرته من أجل رجل آخر؟.. هل سافرت أم ما زالت في البلاد؟.. تساؤلات كثيرة تؤرق الكاتب وتنهش مخيلته كزوج، وتدفعه ليبدأ رحلة البحث عنها.
يبدأ الراويّ "البطل" رحلته المضنية في البحث عن زوجه على عدة مستويات: على المستوى الواقعي (الحسّي) وعلى المستويين العاطفي في الإجابة عن تساؤلاته حول الحب والحرية، والفكري في كيف يمكن للإنسان أو لمجموعة من الأشخاص التضحية حتى الموت في سبيل فكرة ما؛ وذلك لشدة إيمانهم بها، تماما مثلما ضحت زوجه "استر" بحياتها وحريتها ومتعتها؛ لإنجاح رسالتها في عملها كمراسلة حربية. والأهم من ذلك كله أن البطل يحاول التعرف على نفسه.. أن يعرف اتجاهاته في الحياة بعدما فقد بوصلته.. يحاول أن يجد الإجابات عن أسئلة كثيرة تتعلق بمعاني الحياة والحرية والحب والموت، وهي التساؤلات التي تولدت باختفاء زوجه "استر".
وفي هذه الرواية لا نتعرف على البطل الراوي فقط، بل نتعرف على أعماق الروائي باولو كويلو، وعلى أفكاره ومشاعره شديدة التأثر بالتأملات والغيبيات، والشعائر الغريبة والخاصة والسحرية لمجموعات وفرق تؤمن بأفكار خاصة عن الحياة والله والطبيعة. وقد سبق له وأن انضم لمجموعات مماثلة تقوم بأعمال السحر والشعوذة وتدخين المخدرات إلخ.. ثم يكتشف أنهم جميعا يبحثون بصورة أو أخرى عن معنى الحياة، ويحاولون الإجابة عن أسئلة الحياة الصعبة كالحب والموت، وهي الأسئلة نفسها التي يبحث البطل عن إجابتها.
لقد عاش باولو هذه التجارب ونقلها إلينا عبر روايته الزهير، ولعل أهم نتيجة توصل إليها في حياته وروايته أن رحلة البحث عن الحقيقة قد لا تؤدي إلى نتيجة وإلى إجابات شافية، ولكنها مهمة كأهمية الحقيقة نفسها. ولهذا فإن رحلة الحج إلى سانتياغو التي يحدثنا عنها باولو في كثير من كتاباته (رحلة الدرب المقدسة) هي بذات أهمية الوصول إلى سانتياغو.. ومثل هذه الرحلات تمنح الإنسان فرصة للولادة من جديد والبدء من جديد.. إنها رحلات الانبعاث والوصول إلى القدرة على التبصر ورؤية الأمور بوضوح بعيدا عن متاعب "اليومي" منها ورتابته.
ولعلّ المثير في رواية الزهير إيمان الروائي المطلق بنظام الإشارات التي ترسلها لنا الأقدار لتعطينا إيحاء للقيام بعمل ما دون غيره أو العكس، حيث يكشف لنا عبر رواية الزهير -كما في رواية الخيميائي وغيرهما- عن أهمية الإشارات في حياته ومدى تأثّره بها؛ والإشارات قد تكون أحداثا أو أشياء تصادف الكاتب فتمنحه الأمل أو اليأس.. التفاؤل أو التشاؤم.. قد تكون حلما، أو لقاء عابرا.. ولكنها في كل الأحوال تساعده على تلمّس طريقه في الحياة، وترشده إلى تحقيق هدفه.
فهناك عدد لا يُستهان به من قرّاء كويلو الذين شغفوا بعالمه؛ لأنه في كل كتاباته يخاطب الروح والعقل مستخدما التأمل، وقد تكون بعض كتاباته أقرب لكونها علاجا نفسيا تأمليا أو بحثا علميا مثل في روايته الشهيرة "إحدى عشر دقيقة "، كما أنّ قسمًا من القرّاء تغيّرت حياتهم بتأثير التفاعل مع كتابة هذا الكاتب وعوالمه، وهو الذي تطرح أعماله أسئلة كثيرة تستنفرهم فيبحثون عن إجابتها في أكثر من كتاب وكتاب.
وُلد باولو كويلو سنة 1947 في ريو دي جانيرو، وقبل أن ينصرف إلى كتابة الأدب كان مؤلف أغان لأشهر نجوم البرازيل، وكتب للمسرح وعمل في شركة إسطوانات، ودفع به أهله غير مرة إلى المصحّة النفسية لاعتقادهم بأنه مُصاب بلوثة عقلية، وربما كان لتلك التجارب الأثر الأول في صفة التأمل والروحانية التي تغلب على رواياته. كما شارك في الحركات السياسية اليسارية في بلاده، واعتقل وسافر كثيرًا.. وفي كلِّ هذه الحياة الحافلة التي عاشها كان حلم الكتابة يراوده ويستحثه على أن يكتب ويعطي الكاتب الذي فيه الفرصة اللائقة من أجل الانطلاق والعيش والحياة والتطوّر.
في سنة 1986 حجّ كويلو إلى مزار القديس يعقوب -المزار الإسباني القديم- وبعدها كتب كتابه الأول عن هذه التجربة وأسماه "حاج كومبوستيلا"، ثم عمل بعدها بسنة على كتابة الأشهر.. "الخيميائي"، وهذا ما كرّسه واحدًا من أكثر كتّاب العالم شهرة وقرّاءً. وتتالت أعماله الأخرى التي فرضته كاتبًا شعبيًا واسع الانتشار، فأصدر: "فيرونيكا تقرّر أن تموت" و"على نهر بييدرا هناك جلست فبكيت" و"الشيطان والآنسة بريم" و"الجبل الخامس" و"مكتوب" و"إحدى عشرة دقيقة" و"الزهير"، وغيرها من الكتب الأخرى.