الرسالة نت - وكالات
لم يكن المصريون -في أشد حالات الكرب خلال حكم الرئيس السابق حسني مبارك- يتخيلون أو يحلمون أن يروه في قفص الاتهام، ولم يكن هو يتخيل أن يجور الزمان عليه بهذا الشكل ويجعله أول رئيس عربي يسقطه شعبه عبر ثورة شعبية دون تدخل أجنبي، ويحاكمه حضوريا هو وابنيه ورموز نظام حكمه الذي استمر لنحو ثلاثين عاماً.
بيد أن أضغاث الأحلام التي لم تراود مبارك لحظة صارت حقيقة على أرض الواقع، وها هو الرئيس المصري السابق يحاكم حضوريا في جرائم تتعلق بقتل المتظاهرين أثناء الثورة 25 يناير إضافة إلى جرائم تتعلق بالفساد وسوء استغلال السلطة.
12 ساعة
تعرض مبارك طوال سنوات حكمه الثلاثين للعديد من الأزمات، وانتصر عليها جميعاً، باستثناء الاحتجاجات التي انطلقت في 25 يناير وأطاحت به بعد 18 يوماً فقط من اشتعالها، وكانت تلك من أصعب الأيام التي مر بها طوال حياته.
لكن الأصعب مما سبق هي الـ12 ساعة التي شهدت انتقاله من مستشفى شرم الشيخ بجنوب سيناء شرقي البلاد إلى ضاحية القاهرة الجديدة بالعاصمة المصرية، حيث جرب ولأول مرة في حياته مذلة السجن وهو على سرير المرض.
مبارك لم ينم
ووفقاً للمعلومات التي حصلت عليها مصادر مطلعة فإن مبارك لم ينم ليلته باستثناء ساعتين فقط استراح فيهما بعد تناول الإفطار في السابعة مساء، وأدى الصلاة في وضع الجلوس على كرسي بالقرب من السرير في المستشفى، وقرأ بعضاً من القرآن الكريم حتى الثانية عشر ليلاً، في حين تولت زوجته سوزان ثابت تجهيز ملابسه والاطمئنان على سير عملية انتقاله من المستشفى إلى السجن.
خطة الخروج
أدى مبارك صلاة فجر يوم 3 أغسطس، ثم ارتدى ملابسه السجن البيضاء استعداداً لركوب الطائرة متوجهاً إلى أكاديمية الشرطة بالقاهرة، ولكن الحرس الخاص به أخبره أنه تم تغيير خطة الخروج من المستشفى في اللحظات الأخيرة.
فقد تقرر أن يستقل سيارة إسعاف مجهزة طبياً حتى مطار شرم الشيخ، وليس طائرة مروحية، وأعد مدير أمن جنوب سيناء اللواء محمد نجيب الخطة تحت إشراف مباشر من وزير الداخلية اللواء منصور العيسوي، الذي أبلغ تفاصيلها للمشير حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري.
ووفق الخطة فإنه تم نقل مبارك بسيارة إسعاف عادية من سيارات المستشفى، حيث خرجت ثلاثة سيارات في الساعة الخامسة صباحاً كان مبارك يرقد في واحدة منها، وفي مطار شرم الشيخ كانت بانتظاره طائرة هليكوبتر تابعة لرئاسة الجمهورية، استقلها الرئيس السابق ومعه الفريق الطبي المعالج له
ومبارك كان يستخدم ثلاثة مروحيات رئاسية في تنقلات داخل الجمهورية، وتحديداً من شرم الشيخ للقاهرة أو العكس أو الإسكندرية، وهي المدن الثلاثة التي كان يرتادها خلال السنوات العشرة الماضية، حيث ندرت زيارته للمحافظات الفقيرة، واقتصرت على افتتاح المشروعات الكبرى فقط، والتي كان يفصل بينها سنوات.
وكان ابنه جمال يستخدم المروحيات الرئاسية في تنقلاته أيضاً داخل البلاد لكن حلم جمال تحول إلى كابوس، وتسبب في الإطاحة بوالده وتقديمهما وشقيقه علاء للمحاكمة بتهم قتل المتظاهرين الذين خرجوا لإجهاض حلمه الرئاسي.
شارد الذهن
ووفق مصادر مطلعة فإن مبارك كان شارد الذهن، ولم يتحدث مع أحد من فريقه الطبي منذ خروجه من مستشفى شرم الشيخ حتى وصوله إلى أكاديمية الشرطة بضاحية القاهرة الجديدة، ولكن المصادر لم تتأكد عما إذا كان صائماً أم لا، لكنها رجحت صيامه لأنه لا يعاني من أمراض خطيرة تستدعي إفطاره، مشيرة إلى أن تقارير وزارة الصحة تشير إلى أن حالة مستقرة، ويعاني من اكتئاب وارتفاع بسيط في ضغط الدم.
لقاء الأب وابنيه
وصل مبارك إلى أكاديمية الشرطة في الثامنة والنصف صباحاً، وكانت الأكاديمية تحمل اسم "أكاديمية مبارك للأمن" قبل صدور حكم قضائي بتاريخ 21 أبريل الماضي، برفع اسمه هو وزجه ونجله جمال من على المنشآت والمؤسسات الرسمية، ومكث في المستشفى الخاص بالأكاديمية لنحو نصف الساعة التقى خلالها مع نجليه علاء وجمال للمرة الأولى منذ القبض عليهما في 13 أبريل الماضي، حيث لم يلتقوا بعضهم طوال الشهور الأربعة الماضية، فقد كانا محبوسين بسجن مزرعة طرة بالقاهرة في حين كان والدهما محتجزاً في مستشفى شرم الشيخ بالقرب من الحدود الشرقية لمصر مع (إسرائيل).
ووفق المصادر فإن لقاء مبارك بابنيه جاء بعد استئذان المحكمة، وعندما دخلا علاء وجمال على والدهما وهو يرقد على سرير ثابت بمستشفى أكاديمية الشرطة احتضناه وقبلا يديه، وبكى علاء الابن الأكبر لمبارك، في حين قال له جمال "سامحني يا بابا" فيما ظل مبارك متماسكاً وشارداً، ولم يتحدث كثيراً، واكتفى بالسؤال عن أحوالهما وصحتهما.
ولم يلتق مبارك وزير داخليته حبيب العادلي خارج قفص الاتهام، قبل جلسة المحاكمة الأولى أو بعدها أو في أثنائها والتي رفعت مرتين، الأولى للاستراحة والأخرى للمداولة. ولم يتبادلا النظرات أثناء الوجود في قفص الاتهام، وتحاشا علاء وجمال والعادلي النظر إلى بعضهم بعضا.
اللحظة الأصعب
رغم أن لحظة دخول مبارك قفص الاتهام كانت صعبة لكن الأصعب عليه كان وقوفه هو ونجليه في قفص وأحد متهمين بجريمتي التحريض على قتل المتظاهرين والفساد، وهما تهمتان تصل العقوبة فيهما للإعدام وفق قانون العقوبات المصري.
ورغم أن مبارك ظهر متماسكاً أثناء المحاكمة غير أنه كان شارداً أيضاً، ولم يكن يتابع ما يجرى من حوله بطريقة جيدة، حيث يعاني من ضعف بالسمع، وكان هذا واضحاً أثناء المؤتمرات الصحافية حيث عادة ما كان يطلب إعادة طرح السؤال عليه، وكان يضع كف يده إلى جانب أذنه من أجل استراق السمع، ظهر أيضاً أنه يعاني من تلك المشكلة الصحية عندما طلب القاضي سماع رده على الاتهامات الموجهة إليه من النيابة، فطلب من نجله جمال إعادة السؤال عليه حيث لم يسمعه جيداً، وهنا رد: "أنكرها جميعاً".
وأثناء الاستراحتين اللتين تخللتا الجلسة الأولى للمحاكمة، لم ينبث مبارك ببنت شفاه أيضاً. وأجرى له الفريق الطبي المرافق له قياساً لضغط الدم.
مكان وفاة حفيده
في الثالثة عصراً بتوقيت القاهرة وعقب تأجيل جلسة المحاكمة إلى 15 أغسطس الجاري خرج مبارك على سريره ونقل إلى المركز الطبي العالمي التابع للقوات المسلحة، وهو المستشفى التي نقل إليها حفيده محمد علاء عندما سقط من فوق ظهر الحصان أثناء التمرن على ركوب الخيل، ومنه إلى العاصمة الفرنسية باريس، لكن أحدا لم يستطع إنقاذه من الموت، حيث فاضت روح الصغير ذي 12 عاماً في 18 يونيو من العام 2009.
وأثر هذا الحادث بصورة كبيرة في معنويات مبارك وصحته، حيث حزن جداً على وفاة حفيده البكر، وظل يرتدي "الكرفاتات" السوداء حداداً عليه حتى آخر ظهور رسمي له في 10 فبراير الماضي قبل يوم واحد من إعلان نائبه عمر سليمان تنحيه عن السلطة ونقلها للمجلس العسكري.
طوال الاثنا عشر ساعة تلك كان مبارك يفكر فيما آل إليه حاله بعد ثلاثين عاماً في حكم أكبر بلد عربي، وكان يسترجع ذكرياته أيام السلطة، وكيف أن نهايته جاءت على غير ما خطط ودبر، وبدلاً من أن يشهد العالم كله مراسم تولي نجله جمال الحكم في انتخابات سيقال إنها نزيهة.. يتابع الآن مراسم محاكمته!!..