القدس المحتلة - الرسالة نت
بكل ما تحمله الكلمات من معان مختلطة حول فرحة العيد، تستقبل المدينة المقدسة عيد الفطر الذي من المفترض أن يكون سعيداً، وبألوانه وزينته يظلل أزقتها ويحاول نشر البهجة في صفوف سكانها.
ولكن العيد في زهرة المدائن يفتح آهات عديدة يتناساها أهلها، فتارة يستذكرون أحبة غابوا عن فرحته إما تحت التراب أو خلف القضبان، وتارة يُجبرون على تمضيته في مساحات ضيقة فرضتها عليهم التجمعات الاستيطانية، وأخرى يتحسرون على جدارٍ قطّع أوصال مدينتهم وهوى بها إلى العزلة.
"عيدنا ليس عيدا"
لم تشأ أن تجعل وضعا خاصا لعائلتها في العيد بل شملته على كل المقدسيين بجملة واحدة "نحن لم نعش عيدا واحدا تحت الاحتلال"، ولكنها بفيض الأمومة لم تستطع أن تخفي عذابها على فراق نجلها الفتى "ميلاد عياش" من بلدة سلوان، الذي سرقت روحه رصاصات الاحتلال قبل عدة أشهر.
وتوضح والدته لـ"الرسالة نت" أن العيد لم يكن يوما سهلا على المقدسيين، فحتى قبل استشهاد نجلها لم يكن أحد يشعر بفرحة العيد في ظل ما تمليه الآليات والرصاصات وترانيم المستوطنين من جو مشحون بالألم دوماً، ولكن بالطبع فإن الحزن في هذا العيد مضاعف.
وتتابع:" هذا العيد الأول الذي نستقبله دون وجود ميلاد، فهو كان يضفي رونقا خاصا على الأعياد والمناسبات، ورغم صغر سنه كان يحرص على أن يعطيني "العيدية"، ومهما كان المبلغ فكنت أراه عظيما لأنه من ميلاد، لا أدري كيف من الممكن أن أخفي حزني على فراقه إلا بالبكاء فوق قبره".
وتبين الوالدة المكلومة كيف أن الصدمة ما زالت تحفر صداها في قلب كل فرد من العائلة، فغياب ميلاد أصبح يعني غياب الفرحة والبسمة والروح الجميلة، مؤكدة أن عيد المقدسيين في كل الأحوال لا يُحتسب عيداً كبقية البشر.
وتقول: "عيدنا لن يكون إلا بتحررنا ونيلنا الكرامة والعزة في ربوع القدس وفلسطين كلها، هم يتلذذون في تعذيبنا وإفساد فرحتنا، فلا تجد بيتا إلا وفيه شهيد أو أسير، عيدنا ببساطة ليس عيداً".
أما المواطن سعيد والد الشهيد ميلاد فيختصر جرحه بكلمات بسيطة لـ"الرسالة نت":" أنا لا أتخيل أن أعيش يوما عيداً جميلا أو سعيدا بدون ميلاد، ولكن هذا ما كتب علينا وهذا ما يجب أن نتحمله، هو أخذ الروح وذهب ونحن نعيش على الحسرة تارة وعلى الصبر تارة أخرى".
"أشتاق إلى وجوده"
وكما آلاف العائلات تستقبل عائلة الأسير المقدسي "وسام العباسي" عيد الفطر السعيد برزمة من الأمل المرسوم قهراً منذ تسع سنوات، فوجوده كان يسبغ الفرحة على كل المناسبات التي باتت باردة دونه.
وتقول والدته لـ"الرسالة نت" إن المناسبات التي تمر على العائلة أمست دون طعم أو ميزة، بل أصبحت مناسبات للألم وتذكّر وسام والشوق إليه، والدموع تأخذ مكانها في الأعياد وتخط طريقها على ملامح كل أفراد العائلة بمن فيهم ابنته إيمان التي فقدت عطفه منذ أن كانت رضيعة.
وتضيف:" كلما مر شهر رمضان المبارك وعيد الفطر السعيد استذكرت وسام فهو لا يغيب عن مخيلتي، وكلما رأيت جموع الشبان وهم يهنؤون عائلاتهم ويساعدون في وضع الزينة أبكي على الفور رغم مرور تسع سنوات على اعتقاله، لا يمكن أن أفرح بأي عيد وهو بعيد عني، وأتمنى كل يوم ان أجده أمامي خارج الأسر".
وخلف صوت تقطع بالعبرات تصف والدة وسام كيف كان ابنها يصطحبها إلى المسجد الأقصى المبارك لأداء صلاة العيد، وكيف بات حالها دونه وهي ترى الشبان يصطحبون أمهاتهم إلى المسجد فيتمزق قلبها قهراً ووجعا على فراقه.
وتتابع بصوت مخنوق:" أشتاق إلى وجوده، هو كل حياتي وأملي، لم أذق طعما للفرحة في غيابه وأنا الآن مشتتة من دونه، أتمنى من الله أن يمن علينا بصفقة تبادل مشرفة كي أرى ابني وأن يفك أسره وأسر جميع المعتقلين".
العيد محاصر!
وبعيدا عن جرح الأرواح المكلومة من نار الفراق تطفو قضية حصار المدينة على سطح الأزمات المتراكمة كلما مرت مناسبة، فالعيد أيضا يفتح قصة حزن أخرى بعد أن تكالبت أذرع الاحتلال على كل أشكال الحياة في المدينة.
ولعل أبرز ما يميز الأعياد في المدن الأخرى هو الأسواق الملونة بأنواع عديدة من البضائع والأطعمة والجو الذي تسبغه على المناسبة ذاتها، ولكن في القدس أمست الأسواق وحيدة مع الجدران والغبار في ظل ما تقوم به سلطات الاحتلال من حرب عليها، فلا تسمح للبضائع المقدسية إلا بالكساد ولا تدع للتجار مكانا لكسب الأعياد.
ويقول التاجر المقدسي خالد الجعبة لـ"الرسالة نت" إن الأوضاع الاقتصادية في المدينة تسير من سيء إلى أسوأ، ورغم أنه من المفترض أن تكون الأعياد فرصة التجار إلا أن الاحتلال يضيع عليهم تلك الفرص ويحرمهم منها عبر عدة معوقات أبرزها فرض الضرائب الباهظة.
ويضيف:" أنا مثلا كنت بانتظار العيد كي أعوض خسارة الأيام الماضية، ولكنني فوجئت ببلدية الاحتلال تفرض علي ضريبة الصرف الصحي دون مبرر والتي تفوق قيمتها 5 آلاف شيقل، بينما يقوم عناصر الشرطة بوضع أنفسهم كالحراس علينا ويحرموننا القيام بعملنا كما يجب".
ويؤكد الجعبة أن بلدية الاحتلال تتعمد فرض الضرائب وإلحاق الخسائر بالبضائع المقدسية وفوق ذلك فرض الأسعار الباهظة عليها في الأعياد، وكل ذلك من أجل محاربتهم في لقمة عيشهم ومنع التبضع في أسواقهم القديمة.
من جهتها تقول "لمياء العلمي" من المدينة لـ"الرسالة نت" إن سياسة الاحتلال تلك تعيق عملية التسوق لدى المقدسيين، فالجيوب فارغة والبضائع مرتفعة الثمن مما يجبر الكثيرين على التسوق في مدن أخرى وترك السوق المقدسي.
وتضيف:" كل ذلك من سياسة الاحتلال ولكن ماذا نفعل، لا نستطيع مواكبة كل الظروف الصعبة، والكثير من المقدسيين لا يقدرون على شراء الأطعمة والملابس بسبب أوضاعهم الاقتصادية".
عيدُ تحدي الإبعاد
وبين أروقة القدس نصل إلى حي الشيخ جراح وما تضمه حجارته من خيمة صمود وثبات، تلك التي لا يمكن أن يتناسى المرء فضلها على المقدسيين أو ما تضفيه أقمشتها على المدينة من معان عظيمة للثبات والتحدي، فخيمة نواب حماس في القدس أمست رمزاً ومنارة لكل المقدسيين.
ويقول النائب المهدد بالإبعاد أحمد عطون لـ"الرسالة نت" إن العيد هذا هو الثالث الذي يمر على النواب الإسلاميين في خيمة صمودهم، وأنه رغم الألم على فراق عائلاتهم في مثل هذه المناسبات إلا أن تحدي سياسات الاحتلال يستحق الصبر والتضحية
ويتابع:" هذا العيد لن يختلف كثيرا عن العيدين الماضيين، فأجواؤه في الخيمة أصبحنا نعرفها جيدا ونشتاق خلالها لتمضيته مع أسرنا وفي منازلنا، ولكن قدر الله أن نكون هنا وأن نثبت ونصبر على بطش الاحتلال، وفي هذا العيد من المفترض أن يكون يوما سعيدا على أطفالنا وعائلاتنا ولكنه يذكّرهم بألمهم بسبب بعدنا عنهم".
ويوضح عطون أن ممارسات الاحتلال في القدس لا تقتصر على النواب وحدهم بل تطول كل أهالي المدينة، وأن أكثر شيء يشتاقون إليه هو الصلاة في المسجد الأقصى المبارك البعيد عن خيمتهم بضعة أمتار فقط ولا يستطيعون وصوله، بينما تتشتت عائلاتهم بين عدة جراح.
ويقول:" عائلتي على سبيل المثال لديها زيارة لشقيقي الأسير محمود في سجن بئر السبع وزيارة أخرى في يوم آخر لشقيقي الأسير جهاد تتخللها زيارة الخيمة هنا، وهذا الوضع الذي هم فيه يشتتهم ولكن يصبرون على ما كتب الله".