السيرة النبوية كما يجب أن تفهم

السيرة النبوية بوقائعها المختلفة تمثل حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه،  ودراستها بمنهجية علمية أمر مهم لكل مسلم فضلاً عن المربين والمعلمين, والقادة والسياسيين والمؤرخين، إذ هي مادة سلوكية تربوية ذات أهداف اعتقادية وأخلاقية.
 فالسيرة النبوية ليست ضرباً من التاريخ فحسب، إنما هي منهج متميز, وعبر متجددة, وسلوك يقتفى, وأثر يتبع، والسيرة النبوية متجددة العطاء، لأنها سيرة الرسول الأسوة والإمام القدوة الذي لا يصح عمل ولا عبادة إلا باتباعه، وسيرته  صلى الله عليه وسلم معيار تقاس إليه جميع السير والمواقف والأحداث, وهي صالحة لكل زمان, متسعة لجميع القدرات البشرية، وقد جمع الله فيه جميع الكمالات البشرية حتى يتمكن من الاقتداء به جميع المسلمين على مختلف أزمانهم وأوطانهم ومواقعهم، الإدارية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتربوية وغيرها.
إذن ليس الغرض من دراسة السيرة النبوية وفقهها، مجرد الوقوف على الوقائع التاريخية، ولا سرد ما طرف أو جمل من القصص والأحداث، ولذا فلا ينبغي أن نعد دراسة فقه السيرة النبوية من جملة الدراسة التاريخية، شأنها شأن الاطلاع على سيرة ملك من الملوك أو عهد من العهود التاريخية الغابرة، وإنما الغرض منها؛ أن يتصور المسلم الحقيقة الإسلامية في مجموعها متجسدة في شخص الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بعد أن فهمها مبادئ وقواعد وأحكاماً مجردة  في الذهن، بمعنى أن دراسة السيرة النبوية، ليست سوى عمل تطبيقي يراد منه تجسيد الحقيقة الإسلامية كاملة، في مثلها الأعلى محمد  صلى الله عليه وسلم.
إن المشكلة الواقعة في دراسة السيرة اليوم، أنها تجري على الطريقة التقليدية في سرد الحوادث وحفظ الوقائع من دون التنبه إلى أهميتها التربوية السلوكية؛ وأثرها في تقوية الإيمان وترسيخه؛ وفي بناء الجيل والأمة وفق السنن الشرعية والاجتماعية والكونية، ومن دون التنبه إلى أن أحداث التاريخ ربما تتكرر بأشكالها ودقائقها ووقائعها، استناداً إلى حقيقة ديمومة صراع الخير والشر، ونزاع الحق والباطل، ومعركة عباد الرحمن مع أنصار الشيطان، وبالتالي فإن الحلول التي أبدعتها سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام للكثير من المشكلات ربما تكون هادياً لنا ومرشداً لإيجاد حلول مشكلات وأزمات العصر الحالي التي كنا ولا زلنا نعاني منها، ولا نهتدي إلى حلولها سبيلاً.
ألا ترى معي إلى بعض الخطباء يتحدثون من على المنابر عن أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن أحوال أصحابه الكرام في يوم كذا، أو غزوة كذا أو في هذا الموقف أو ذاك غارقين في الوصف، مبحرين في الإشادة، من دون الإشارة إلى نفس المشكلة -وربما بتفاصيلها- حاضرة بينهم، وبادية أمامهم، وماثلة بين أيديهم.
انظر إلى مسألة الحصار مثلاً، ألم يحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام حصاراً شديداً في شعب بني هاشم فكانت المعاهدة التي اعتبرت المسلمين ومن يرضى بدينهم أو يعطف عليهم أو يحمي أحداً منهم حزباً واحداً دون سائر الناس، ثم اتفقوا فيما بينهم على أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ولا يدخلوا بيوتهم، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهد و ميثاق " أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا محمداً للقتل"، فكان أن احتبس الرسول عليه السلام ومن معه في شعب بني هاشم وانحاز إليهم بنو المطلب كافرهم ومؤمنهم عدا أبي لهب، وضيق المشركون الخناق على المسلمين حتى بلغ منهم الجهد مبلغه، قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في ذلك: " خرجت يوماً لأبول فسمعت قعقعة- أي صوتاً- تحت البول فإذا هي قطعة من جلد بعير يابسة فأخذتها وغسلتها ثم أحرقتها ورضضتها بالماء فتقويت بها ثلاثة أيام "، واشتد الحال بالمسلمين ومن معهم حيث قطعت عنهم المئونة و نفد الطعام وسمع بكاء أطفالهم من وراء الشعب حتى رثى لحالهم بعض خصومهم. فهل درس خطباؤنا سيرة وحال الرسول صلى الله عليه وسلم فترة الحصار؟، وهل فهموا ثقافة الحصار وخرجوا بنتائج تنفع الأمة اليوم في حصارها الظالم المفروض عليها، وتؤسس لفهم جديد وحلول جديدة ينتفع بها المسئولون وأصحاب القرار.
وخذ مثلاً ظاهرة الفقر وضعف أحوال المسلمين المادية والاقتصادية بشكل عام وبعض أفرادها على وجه الخصوص، هل درس خطباؤنا ومدرسونا أحوال الأشعريين (قوم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه) الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم"، فما وجه الخلاف أيها السادة الكرام بين أحوال بعض المسلمين اليوم في بلادنا وحال الأشعريين رضي الله عنهم في المدينة.
هي السيرة النبوية إذن تضع الحلول الشافية والأجوبة الكافية، لكل أو قل لبعض مشاكل العصر الحديث، ولكنها تحتاج إلى عقول مبدعة نيرة، وقلوب مؤمنة مضيئة، وثقافة إيمانية عالية، وأفق عال، وهيئة مستشرفة، وسقف مرتفع قادر على اتخاذ قرار التصحيح، والتغيير والإصلاح ليشعر الناس بالأمن في كافة جوانبه، ويعيش الناس في كنف الإسلام العظيم، آمنين مطمئنين ما دامت السيرة النبوية المشرفة حاضرة بأحداثها ووقائعها في قلوب القادة والساسة، والعلماء والفقهاء وصناع القرار.

البث المباشر