الصحافة شجعتها بعدما قررت الانسحاب

أبو رقيق.. سيدة في ورشة النجارة

غزة – مها شهوان

في مشهد غريب تقف امرأة في موقع لا تألفه النساء.. المكان يحوي الخشب وآلات النجارة، وبجسدها الصغير تمسك الأربعينية آمال أبو رقيق وهي ترتدي زيها الكحلي مطرقتها بيد وبالأخرى لوحة خشبية لتنحت عليها بعض الرسومات التي تعبر عما في داخلها من كبت.

النجارة آمال التي تمنت التخصص في مجال هندسة الديكور لم تسمح لها بإكمال دراستها لتعيش مع والدتها؛ كونها مطلقة من رجل يقطن داخل أراضي الـ48، وأنجبت منه طفلة معوقة تبلغ من العمر 16 عاما.

الحرفية أبو رقيق فضلت امتهان حرفة النجارة رغم نيلها العديد من الدورات في الخياطة وتصميم الأزياء والكوافير والكمبيوتر.

الصحافة أعادتني للحياة

روت آمال عن بداية التحاقها بالنجارة وهي تتنقل بين أرجاء المنجرة حيث برادة الخشب الملقاة على الأرض وعلب الصمغ الملتصق بالطاولة قائلة بخفة تشبه خفتها في التنقل: "لأني مطلقة منحتني وزارة الشؤون الاجتماعية دورة تدريب للنجارة في مركز تمكين المرأة والمجتمع وبرفقتي 30 سيدة، ولكن غالبيتهن انسحبن حينما بدأ المشرف يطلب صنع بعض الأعمال التي اعتبرنها تعجيزية".

إصرار وعزيمة حملتهما آمال جعلانها تواصل عملها في المنجرة وتنفذ كل ما يطلب منها عبر بحثها على الإنترنت ومشاهدتها للمسلسلات، ثم ترسم ما تلتقطه عيناها على جهاز الكمبيوتر وتطير إلى المركز للتطبيق.

ووصفت أول يوم لها في المنجرة بضحكة خبأت خلفها معاناة تشعرها بالظلم قائلة: "حينما عدت إلى البيت بعد يومين من العمل شعرت بتعب شديد نتيجة حمل الأدوات الثقيلة كالمقدح الذي كان يهز جسدي مع كل حفرة.. لكني تعودت بعدها ".

وكانت والدة آمال تستصعب على ابنتها ممارسة مثل هذه المهنة الشاقة في البداية ولاسيما أنها امرأة ولديها ابنة معاقة.

ولادة جديدة

غالبا ما يترك المرء أحب الأشياء إلى قلبه لشعوره بالظلم، وهذا ما حصل مع ضيفتنا، ولكن الأمر تبدل حينما أعادتها الصحافة إلى الحياة من جديد بعدما أعلنت انسحابها، فهي شاركت في ثمانية معارض لم تأخذ حقها فيها.

قاطعنا عن الحديث صوت الثاقب الكهربائي لتضع آمال بصمتها على إحدى اللوحات، ثم واصلت قولها: "جاءني أحد الصحفيين لعمل تقرير حول معاناتي باعتبار أنني مطلقة من رجل يقطن داخل الخط الأخضر فوجدني في المنجرة أرتدي الزى الخاص بالنجارة، فأذهله المشهد وطلب مني عمل تقرير آخر عن مهنتي فتشجعت لعل صوتي يصل".

وبعد أيام من نشر التقرير الصُّحفي بات الصحفيون يزورون منجرة آمال لعمل مقابلات معها حتى تهافتت وسائل الإعلام لإظهار صورة المرأة الفلسطينية التي تحدت الظروف كافة لتثبت نفسها في أي عمل شاق يمكن اختياره.

وتصف النجّارة المبدعة أن عملها جاء تحديا للعادات والتقاليد التي تفرض على المرأة العمل في مجال يخصها، موضحة أنها حينما تغلق على نفسها باب المنجرة تجد نفسها في كل قطعة تنحتها يداها.

مفتاح العودة

المتجول في منجرة آمال داخل مركز التمكين يجد منحوتات متميزة كخريطة فلسطين ومفتاح العودة الخشبي الذي تصحبه معها أينما حلت مفتخرة به، حيث تعتبره قطعة منها لا يمكن التفريط فيه رغم عرض الكثيرون عليها بيعه لكنها تقابل الأمر بالرفض.

وروت حكاية كادت أن تودي بحياتها حينما أغمي عليها وهي ممسكة بجهاز "الجاكسر" المستخدم لحفر الزوايا الصغيرة وينخر اللوحات بدقة، مبينة أنه لو سقط على جسدها لنخر عظمها لكن عناية الله تدخلت وسقط الجهاز بجانبها.

وتحلم أبو رقيق بمد يد العون لها وتتمكن من امتلاك منجرة خاصة فيها لصناعة كل ما يحلو لها لترضي نفسها بحلمها وتعيل ابنتها التي طردها مركز تأهيل المعاقين الذي ترتاده.

وتعيد النجارة آمال إلى الأذهان حكايات عرضتها "الرسالة" في تقارير سابقة لسيدات احترفن مهن اقتصرت على الرجال، فمنهن من تمتلك مدرسة لتعليم السياقة وثانية تعمل على سيارة أجرة, وطفلة صغيرة تقود المحراث وأخرى بعمر الزهور تمخر عباب البحر لتعيل أسرتها عبر صيد السمك.

البث المباشر