قائد الطوفان قائد الطوفان

"دولة نص نصيص".. من أوسلو إلى أيلول

غزة - شيماء مرزوق

منذ فرض نهج التسوية على القضية الفلسطينية ورئيس السلطة محمود عباس يجبر الشعب الفلسطيني على أكل نصف التفاحة وترك النصف الآخر بحجة أنه لا يمكن الاستحواذ عليها كلها وسط عالم قوي لا يرحم ولا يعطي للضعيف إلا الفتات.

عباس الذي كان المهندس واللاعب الرئيس في معظم المراحل والمحطات التي مرت بها القضية بدءا من أوسلو ووصولا إلى أيلول كان -وما زال- يطعم شعبه من النصف نفسه ويقدم النصف الآخر من التفاحة قرابين لأسياد العالم أميركا و(إسرائيل) حتى يمنوا عليه بنصف دولة وأنصاف حقوق, وهذا ما يزيد الخشية من أن يتمخض جبل "استحقاق أيلول" فيلد "نص نصيص".

***لاعب خفي

وبناء على التحليلات فإن التوجه للأمم المتحدة ومجلس الأمن يعتبر بحد ذاته خطوة جريئة من جانب السلطة الفلسطينية ومغامرة تحمل في معانيها البسيطة خروجا عن الوصاية الأمريكية وعودة بالقضية الفلسطينية لقرارات الأمم المتحدة ومظلتها القانونية والسياسية، ولكنها في الوقت عينه تنطوي على مخاطر وتداعيات ذات أبعاد قانونية وسياسية وتاريخية تتعلق بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني وبأرض فلسطين التاريخية, والخطر الذي يحدق بحق العودة والقدس العاصمة, وبخاصة أنها فقدت عنصرا حيويا: التوافق الوطني حولها.

ويرى المتابعون للقضية الفلسطينية أن الرئيس محمود عباس يذهب بكل ثقله نحو هذه الخطوة التي تعتبر الملاذ الأخير له والمنقذ الوحيد من إخفاق مشروع التسوية والمفاوضات التي ينتهجها سبيلا أوحد لحل القضية الفلسطينية وإقامة الدولة.. الرجل الذي لقب منذ عقود بــ"مهندس اتفاقيات السلام" يضع كل الثوابت والحقوق الفلسطينية ومصير 7 مليون لاجئ والعاصمة القدس على المحك ولا أحد يمكنه أن يتنبأ بما ستؤول إليه الأوضاع بعد مرور أيلول سواء تم الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو لم يتم.

***المحطات السياسية

الاتفاقيات الموقعة والمحطات السياسية -السرية منها والمعلنة- التي مرت بها القضية الفلسطينية كان أبو مازن لاعبا أساسيا فيها, حيث عرف عنه ولعه بالسياسية ومشاريع التسوية منذ انضمامه لحركة فتح الذي جاء متأخرا وغامضا, ففي 28 يونيو 1989 عقد مؤتمر مدريد وأصدر بيان يوصي منظمة التحرير بالبدء بأي نوع من المفاوضات مع (إسرائيل) لحل القضية الفلسطينية.

 وكان عباس من أشد الداعمين لهذا التوجه من داخل فتح إلى جانب الرئيس الراحل ياسر عرفات, وفي أغسطس 1989 اعتمدت فتح -باعتبارها أكبر فصائل منظمة التحرير- إستراتيجية المفاوضات والحل السلمي، والتي أقرها المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر في عام 1988, كما أعلن قيام دولة فلسطين على أساس قرار الأمم المتحدة رقم 181 بشأن تقسيم فلسطين واعترفت بها عدد من دول العالم التي لم تعترف بـ(إسرائيل).

والولايات المتحدة كانت القوة الدافعة لفكرة مباحثات السلام بين الفلسطينيين و(إسرائيل)؛ لذلك تم الاتفاق في سبتمبر 1991 علي اجتماع ممثلي (إسرائيل) وفلسطين وأحزاب عربية في العاصمة الإسبانية مدريد، وذلك لإجراء مباحثات السلام هناك, وقد حضر مؤتمر مدريد -عقد في 31 أكتوبر 1991- كل من (إسرائيل) ووفد مشترك (أردني-فلسطيني) وسوريا كبداية لعملية مباحثات ثنائية.

وقد شهدت الفترة بين أكتوبر 1991 وأغسطس 1993 حوالي 11 جولة بين مباحثات السلام, ولكن مؤتمر مدريد واجه عدة مشكلات أهمها: بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، وعناد رئيس الوزراء (الإسرائيلي) في ذلك الوقت اسحاق شامير، والمعارضة الداخلية في المجتمع الفلسطيني الرافض لعملية السلام.

أما عباس فقد استغل مفاوضات واشنطن الثنائية ليوجه وفدا فلسطينيا آخر ليتفاوض مع (الإسرائيليين) وبسرية تامة في (أوسلو) بالنرويج، ولم تمض إلا شهور قليلة على بدء التفاوض عبر القناة الخلفية للمفاوضات (قناة أوسلو) حتى كان التوقيع بالأحرف الأولى في أوسلو على إعلان المبادئ (الفلسطيني-الإسرائيلي) الذي أسس للتفاوض بين الجانبين لإنجاز الاتفاق المرحلي والمؤقت للحكم الذاتي في قطاع غزة والضفة الغربية، ثم تم التوقيع عليه في حفل دولي كبير في 13 سبتمبر (أيلول) عام 1993 برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، حيث وقع الاتفاق عن الجانب الفلسطيني أبو مازن وعن الجانب (الإسرائيلي) شيمون بيريز.

***سلطت الأضواء

اتفاقية أوسلو سلطت الأضواء على أبي مازن وكشفت النقاب عن خيوط اتصال حاكها منذ عقدين مع شخصيات يهودية وعسكرية يعتبرها من أنصار السلام.

وفي اجتماع المجلس المركزي الذي عقد لمناقشة "اتفاق غزة-أريحا أولا" والتصويت عليه يومي 10و11 تشرين أول/أكتوبر 1993 بتونس قال أبو مازن إن ما تم التوصل إليه يحمل في طياته دولة أو تكريسا للاحتلال، "وهذا يتوقف على أسلوبنا في التعامل معه.. عقل الثورة غير عقل الدولة.. علينا أن نلبس ثوبـًا جديدًا".

وفي عام 1994 تم توقيف المفاوضات مؤقتا لسبب مذبحة الحرم الإبراهيمي الشريف, ثم استؤنفت وانسحبت (إسرائيل) من غزة وأريحا, ثم تم في العام 1995 التوقيع على اتفاقية "أوسلو 2" حيث انتهى الوفدان -(الإسرائيلي) والفلسطيني- المتفاوضان في مدينة طابا المصرية مباحثاتهم بالتوصل إلى اتفاق للمرحلة الثانية من انسحاب (إسرائيل) من الأراضي الفلسطينية.

وكان من المقرر أن يجري التفاوض على المرحلة الثالثة وهي ما تسمى بمفاوضات الوضع النهائي -منها وضع مدينة القدس والمستوطنين والحدود واللاجئين- لكن (إسرائيل) ومنذ ذلك الوقت اتبعت أسلوب المراوغة والتهرب من الالتزام باستكمال بنود اتفاقية أوسلو.

ومن هنا بدأ الترتيب لما عرف فيما بعد بمفاوضات كامب ديفيد، حيث دعا الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الطرفين إلى عقد قمة يتم بها وضع حد للصراع التاريخي بين (إسرائيل) والعرب, وبالفعل بدأت المفاوضات خلال الفترة من 11/تموز/2000_25/تموز/2000, والتي باءت بإخفاق ذريع تم تحميل مسؤوليته للقيادة الفلسطينية.

وهنا بدأت انتفاضة الأقصى التي تخللتها أحداث ووقائع دامية على مدار عشر سنوات بقيت خلالها العملية السلمية مجمدة إلى أن تم استئناف المفاوضات بين الجانبين بعد عقد مؤتمر أنابوليس في 27 من نوفمبر 2007 بمشاركة إيهود أولمرت ومحمود عباس والعديد من زعماء العالم لدفع عملية السلام.. لكنها أخفقت أيضا لسبب التعنت (الإسرائيلي) والمراوغة ورفضها تقديم أي شيء يذكر للطرف الفلسطيني الذي أوفى بكل تعهداته والتزاماته اتجاه (إسرائيل) وأمنها.

***إقرار بالإخفاق

المفاوضات التي يعتبرها عباس سبيل للحياة أقر هو نفسه ومستشاروه وطاقم مفاوضيه بأنها أخفقت إخفاقا ذريعا أن عملية السلام ماتت وانتهت, وهدد أكثر من مرة بأن لديه عدة خيارات سيلجأ لاستخدامها في حال استمرت (إسرائيل) في تعنتها, حيث لوح بالاستقالة وحل السلطة كثيرا في خطاباته التي كان يلقيها بعد كل إخفاق لجولة مفاوضات.

ولأول مرة كانت القيادة الفلسطينية بكل رموزها تقر بإخفاق النهج الذي اعتمدته لأكثر من عشرين عاما بديلا عن المقاومة, حيث قال القيادي في حركة فتح نبيل شعث في 18-12-2010 إن عملية التسوية دخلت في "غيبوبة عميقة"، معتبرا أن مقترحات إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لإطلاقها "غير مجدية بتاتا" في الوقت الحاضر.

وقال شعث لمجموعة من الصحافيين: "أعتقد أننا لن نستأنف المفاوضات قريبا", مضيفا: "هذا المسار التفاوضي لم يعد يكتسي أي مصداقية"، واصفا إياه بأنه "سخيف" ومتحدثا عن شعور بـ"القرف" أمام حال المراوحة في المفاوضات.

بينما أكد كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات أنه على الإدارة الأميركية الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتحميل (تل أبيب) مسؤولية إخفاق المفاوضات، واتهم حكومة الاحتلال بالتذرع بالانقسام الفلسطيني للتهرب من استحقاقات التسوية، محذرا من أن عدم التوصل إلى التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين يعرض المصالح الأميركية العليا إلى الخطر.

ورغم كل الإخفاق الذي أحاط بعملية التسوية والمفاوضات يصر عباس على العودة لهذا النهج لكن عقب التوجه للأمم المتحدة وانتزاع اعتراف أممي بالدولة الفلسطينية ليتم التفاوض على أساس هذا الاعتراف, حيث يبدو أن كل الخيارات اختفت من أمامه وتقلصت لتجتمع في خيار أوحد وهو الذهاب للأمم المتحدة، وهذا ما يرى فيه الكثيرون مخاطرة كبيرة على مصير القضية والثوابت الوطنية الفلسطينية التي سيكون "الفيتو الأميركي" في انتظارها ولها بالمرصاد.

البث المباشر