غزة - محمد بلّور - الرسالة نت
كلماته قليله وصوته خافت.. تمنحه لحيته البيضاء وانحناءةٌ ملحوظة في رقبته مزيدا من الوقار؛ فهو الذي تعبت قدماه من العدو بعد 42 سنة مقاوما.
طلب مني وعدا بنشر ما يقول وقد منحته عقدا أدبيا طرفاه "مقاوم قديم وصحفي"، ووجدت من باب الوفاء أن أحترم العقد معه وهو الذي حارب في الجبال والسهول والغابات.
أبو حمزة شيخ فلسطيني عمره 59 سنة.. قاتل في صفوف الجبهة الشعبية ثم تحول للجهاد في أفغانستان والفلبين وتعرض للسجن 16 سنة.
بداية الرحلة
التحق "أبو حمزة" بالرفاق في الستينيات ونشط في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ثم سافر للالتحاق بالمجموعات العسكرية في لبنان.
وحول انتمائه للجبهة الشعبية والتحاقه بالمجموعات العسكرية أوضح: "وثقنا بهم وآمنا بهم وكان ينقصنا العلم حتى عرفناهم".
بعد فترة من العمل المقاوم المنطلق من القطاع الغربي شمال لبنان ضد الاحتلال سمع يوما "أبو حمزة" الأمين العام الراحل للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جورج حبش يقول: "أنا لا يهمني أن تتحرر فلسطين.. أنا يهمني نجاح ثورة ماركس ولينين".
وعن تلك الحادثة يعلق: "لم أكن أتوقع تلك الكلمات من فلسطيني وقد تفاجأت بحبش", وهذا كان بعد مرور 3 سنوات ونصف من العمل مع الجبهة الشعبية.
ترك "أبو حمزة" الجبهة الشعبية مغادرا إلى شقيقه المقيم في سوريا، وهناك بدأ يتردد على مجالس العلماء ومن أشهرهم محمد سعيد رمضان البوطي وإسماعيل الكيلاني، فتعلم منهم القرآن والتفسير وشدّه الحديث عن معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبعد 3 سنوات أخرى من الحياة في سوريا غادر أبو حمزة سنة 1977 متجها إلى الإمارات العربية المتحدة حيث عمل في وزارة الصحة ثم انتقل للعمل في مستشفى الكويت في دبي، وأمضى 6 سنوات في الإمارات العربية المتحدة قبل أن يبدأ الجزء المهم والمثير من حياته حتى سمع بحرب أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي.
إلى بلاد الأفغان
تحركت في عروق "أبي حمزة" ذكريات المقاومة العسكرية فحنّ الجذع إلى أصله حتى علقت في رأسه أسماء لكبار المجاهدين الأفغان.
وعن تلك الأيام يقول: "سمعت أن قلب الدين حكمتيار جاء إلى دبي، ثم عرفت بعد ذلك أنه قائد لا يوجد أحد مثله وبخاصة في حرصه على الإسلام، وقد كان يومها الشيخ عبد الله عزام مسؤول مكتب خدمات المجاهدين".
جمع أبو حمزة التبرعات ثم سافر إلى كراتشي في باكستان ومنها إلى مدينة بيشاور، وهناك قابل قادة المجاهدين الأفغان ومنهم "حكمتيار وسياف".
وتابع لـ"الرسالة": "سألوني هل لديك خبرة عسكرية، فقلت نعم وبدأت أدرب المجاهدين وقد كان ذلك ما بين سنة 1981-1982"، وأضاف: "لم أكن أشعر أن الجنسيات بين المجاهدين مختلفة بل كلهم إخوة وقد كان طعامنا يضحك.. شوربة الماء والطماطم وأحيانا اللحم.. الحياة كانت بسيطة جدا وفي الصباح الخبز والشاي"، وأشار إلى أن المجاهدين كانوا يتحملوا الجوع والمشقة محبة في الجهاد في سبيل الله، وقد سمع بكثير من كرامات الشهداء وبخاصة في شمال أفغانستان, ومن أمثلة تلك الكرامات ما وقع من معارك واجه فيها 10 مجاهدين 200 من السوفييت.
ويبدو أبو حمزة معجبا بما وصفه أنه أجبر مقاتل أفغاني "أحمد شاه مسعود", وفي ذلك يضيف: "كان مهندسا يقاتل السوفييت حتى شككوا به وهو رجل شريف مقاتل من الدرجة الأولى.. ذكي مهندس يعرف حرب العصابات انتصر على أعدائه بإمكانات بسيطة وكان يحبه عبد الله عزام ويرسل له معونات".
عزام في قلبي
كثيرون يذكرون صورة الشيخ عبد الله عزام متلفعا بعباءة صوفية قابضا على بندقية "كلاشينكوف" فوق جبال أفغانستان المرقطة بالثلج.. الحديث عن عزام من رجل قابله وأمضى معه بعضا من الوقت أمر مختلف.. قد قال عنه أبو حمزة: "كان يرسل المجاهدين لمعسكرات الجهاد حتى يتدربوا، وهو عالم من علماء العصر وله صفات روحانية وربانية.. يحب المجاهدين ويشارك في معارك ويحضر قصفا بالمدفعية".
ويصف عزام بالقول: "قلما تجد عالما في ذلك العصر وهذا العصر مثل الشيخ عبد الله".
عرف الشيخ عزام بأنه رجل يتكلم ويفعل، "لم يتعصب يوما إلى جماعة.. همه نصرة الإسلام.. كريما مع المجاهدين وتلك صفة قلما وجدت في ذلك الزمان نظرا لضعف الحال".
ومع ازدياد نشاط الشيخ عزام تحسنت أحوال المجاهدين فزاد دعمه لمناطق أحمد شاه مسعود على الحدود السوفيتية وزادت حصة المجاهدين من الطعام والمال والسلاح.
ومما كان يؤثّر في قلب أبي حمزة تذكر فلسطين المحتلة المحجوبة قسرا عن المجاهدين فيتابع: "حزّ في نفسي ذات مرة قدوم 12 رجلا من فلسطين تدربوا لأجل فلسطين ثم عادوا لفلسطين في حين كان الفلسطينيون قلة في أفغانستان والتدريب كان متاحا على أعلى المستويات".
مقاتل وتاجر
أمضى سنينا من حياته مقاتلا ومدربا، وقد كان مسؤولا عن مجاهدين عرب وأفغان وفلبينيين.
ويحمل أبو حمزة تقديرا عاليا للقائد الأفغاني سياف "عبد رب الرسول سياف"، ويصفه بأنه شخص متواضع وبسيط وفقير، "درس الماجستير في الأزهر ويتكلم لهجات عربية عدة أهمها الفلسطينية".
سأل سياف أبو حمزة: "هل لديك خبرة عسكرية؟"، فأجاب: "نعم", وأصبح بعدها يدرب المجاهدين، وقد كانت الصحافة تسميهم الأفغان العرب، كما قال.
وكانت معظم التبرعات تصب عند سيّاف، وقد ساعده الإعلام حيث أضاف: "حكمتيار قوته أضعاف أضعاف سياف لكن الإعلام أبرز سياف أكثر من غيره".
وبعد سنوات من الجهاد في أفغانستان رحل لمواصلة الرحلة إلى الفلبين مع المقاتلين من جبهة تحرير مورو الإسلامية.
وهناك كانت التضاريس والجبال تختلف عن أفغانستان، وقد كان في الفلبين خطان جهاديان هما "نور مسواري" والآخر "سلامة هاشم"، "وسمعة الأخير أفضل من الأول حيث تحول الآخر إلى علماني".
كان أبو حمزة مدربا في الفلبين وقد كانت أعداد المجاهدين وإمكاناتهم أقل، حيث كانت الإمكانات في أفغانستان أفضل بفضل معاونة باكستان.
ومكث في الفلبين 4 شهور وبعدها رجع إلى باكستان وعاش بصورة طبيعية، فقد صوّر أبو حمزة فلمين تسجيليين عن المجاهدين في الفلبين وزعت في دبي والكويت وبعض الأقطار العربية.
كانت كل الرحلة رغم طولها ومشقتها سريّة كليا، والحديث عنها عن لسنوات طويلة لا يستطيع أبو حمزة تذكر تفاصيلها وتحديد تأريخ بعض المحطات.
وبعد انتهاء رحلة الفلبين عاد إلى باكستان وعاش في كراتشي، وقد امتهن تجارة العسل يأتي به من الجبال المسماة سورات ثم يصدره إلى الإمارات والكويت حتى يحسّن من أوضاعه المادية.
رأى أبو حمزة الشيخ أسامة بن لادن رجلا "يجاهد بماله ونفسه"ـ وقد كان له تأثير عال على من حوله؛ "فهو أمير العرب في أفغانستان".
وتابع: "كان يحب عزام، وعزام يحب ابن لادن، وكان يدعم الشيخ عزام.. رأيته وهو في عمر 35-40 سنة وكان له علاقة مع أمراء الجميع خاصة مع سياف وحكمتيار.. فابن لادن رجل محترم ووزنه معروف ومقدر وتنظيمه اسمه القاعدة وهو أميره وقد نشأ في أفغانستان".
وقال إن ابن لادن تعرض لحملة إشاعات وتشويه خلفها رجال كانوا يستهدفون ابن لادن حينها؛ "فتركه بعض رجاله وآخرون من المخلصين ظلوا جواره".
وحول شخصية بن لادن يقول: "ابن لادن رجل بسيط يحمل فكرا جهاديا ولو كان متطرفا كما عرّفته لقلت لك".
الحياة في السجن
انتهت وثيقة سفر أبي حمزة الفلسطينية العراقية ولم يستطع مغادرة باكستان حتى جاءت الوشاية وداهمت المخابرات الباكستانية منزله وسرقت وثيقة سفره، ثم سألته عن وثيقة السفر.
واعتقل بتهمة الإقامة بصورة غير قانونية ومخالفة، فسجنوه 8 سنوات حتى عاونه الشرفاء في الجيش الباكستاني وأطلقوا سراحه وقالوا له: "عش أينما تريد".
بعد تلك الحادثة انتقل للعيش في السودان وأمضى الوقت ما بين 1994-1995 لكنه فضّل العودة لخط الجهاد فعاد إلى باكستان.
انتقل للعيش في باكستان مرة أخرى حتى ألقت المخابرات الخارجية الباكستانية fia القبض عليه، وتعرض للسجن مرة أخرى حتى تمكن من الخروج بعد سنوات طويلة.
أمضى الفترة كاملة سجينا من عام 1995-2011 حتى تمكن أصدقاؤه وأقاربه من توفير جواز سفر وعاد إلى فلسطين.
لم يصدق أبو حمزة أن المطاف انتهى به إلى فلسطين حيث ولد وقد مرت 42 سنة كان يحاول فيها العودة بأمان لكنه لم يستطع.
ويرى أن المسلم مبتلى وتلك سنة الدعوة.. مضيفا: "لولا رحمة الله لأصبت بالجنون من الحرب النفسية وقد صبرت وتحسنت نفسيتي".
ويشيد أبو حمزة بالقائد الأفغاني حكمتيار فيقول: "لن تستطيع أمريكا -ولا روسيا- القضاء عليه.. هو ذكي يختفي فلديه خط قيادي من الدرجة الأولى وحوله مهندسون وعلماء وأساتذة جامعات.. يعتمد على فئة خاصة من الأذكياء الملتزمين وأعتبره قائد الثورة ضد أمريكا وهو الآن مختف".
يستعيد أبو حمزة شيئا فشيئا ذاكرته مع أهل وأصدقاء تركهم قبل 42 سنة.. مشقة الرحلة وقسوة السجون لم تترك له شعرة سوداء في لحيته، ولعل أدق ما يوصف به أنه المجاهد ذو اللحية البيضاء.