مبدأ العَفْو عن الأسرى عند رسول الله: كان العفو جوهرة أخرى بالغة الإشعاع في شخصية الرسول.
ضمن سلسلة الانتهاكات التي تواجهها الأمة الإسلامية يقوم الجنود الاسرائيليون –يوميا- بتعذيب الأسرى الفلسطينيين والتنكيل بهم واهانتهم بل وقتل بعضهم أثناء التحقيق.. هذا حالهم ولكن الإسلام شيء آخر! قال رسول الله: " فُكُّوا الْعَانِيَ[3], وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ"[4].
ويقول عندما سأله رجل: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلاً يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ: "لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ", فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَيْسَتَا بِوَاحِدَةٍ قَالَ: "لا, إِنَّ عِتْقَ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا وَفَكَّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا".
لم يكن حثُّ الرسول على العفو عن الأسرى, والمنِّ عليهم أمرًا خياليًّا يُجمِّل به صورة المسلمين, بل كان أمرًا واقعيًّا أفرز مجموعة من المواقف يعجز المرء عن استيعاب عظمتها, وأجمل ما فيها أنها لم تكن مواقف عابرة حدثت نتيجة ظروفٍ خاصّة, أو تحت ضغوط معيّنة, إنما كانت منهجًا ثابتًا, وسُنَّة ماضية, وتشريعًا خالدًا استحالَ أن يجود الزمانُ بمثله.
وَلْنَمُر سريعًا على بعض الأمثلة التي تُظهر رحمته وعفوه عن أسرى أعدائه, وذلك من خلال النقاط الآتية:
أسيرا سريّة نخلة : أَسَرَ المسلمون في هذه السرية –وكانت في رجب من السنة الثانية من الهجرة- اثنين من المشركين هما أول أسيرين في الإسلام؛ الحَكَم بن كيسان وعثمان بن عبد الله, فأما الأول –الحَكَم- فنظرًا لما وَجَدَهُ من المعاملة الكريمة فإنّه أَسْلَمَ وحَسُنَ إسلامُه, وأقام عند رسول الله حتى استُشهِدَ يوم بِئْرِ معونة في السنة الرابعة للهجرة, وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرًا..
ومع أنّ هذين هما أوَّل أسيرين يظفر المسلمون بهما بعد طول العناء والتعذيب من مشركي مكة الذين ينتسب لهم هذان الأسيران؛ إلا أن ذلك لم يكن دافعًا لرسول اللهأن يمسَّهما بأذى, بل على العكس كان الإكرام والصفح عنهما.
وهذا الموقف له دِلالات كبيرةٌ جدًّا, حيث إنّه وضَّح من البداية سياسة رسول الله في التعامل مع الأسرى.
أسرى بدر: كانت معركة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين, وقد تَمّ النصر فيها للمسلمين مع قِلّة عددهم وعُدَّتهم؛ بل إنهم مع هذا النصر أَسَرُوا من المشركين سبعين, واستشار الرسول أصحابه رضي الله عنهم في شأن هؤلاء الأسرى, وماذا يفعل معهم؟
يروي عمر بن الخطاب فيقول: قال أبو بكر: يا رسول الله, هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان, وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية, فيكون ما أخذناه قوّةً لنا على الكفار, وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عَضُدًا, فقال رسول الله: "ما ترى يا ابن الخطاب؟", قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر, ولكن أرى أن تُمكِّنني من فلان -قريب لعمر- فأضرب عنقه, وتُمكِّن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه, وتُمكِّن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه, حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوداة للمشركين, وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فهوى الرسول ما قال أبو بكر, ولم يَهْوَ ما قلتُ –أي عمر- وأخذ منهم الفداء.
وعلى الرغم من نزول الآيات بعد هذا الموقف تُعاتب النبيّ أنه أخذ بالرفق واللين مع هؤلاء الأسرى في هذا الموقف {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]. رغم ذلك؛ لم يكن هذا دافعًا لأن يُسِيءَ الرسول معاملةَ هؤلاء الأسرى, أو يُغَيِّر من تعامله معهم بعد أن أخذ قرارًا بإعفائهم من القتل, وقبول الفدية ممن يستطيع منهم.
وقد تفاوت مقدار هذه الفدية بحسب حالة كل أسير..
فقد أطلق الرسول بعض الأسرى كعمرو بن أبي سفيان مقابل أن يطلق المشركون سراح سعد بن النعمان بن أكال, الذي أسره أبو سفيان وهو يعتمر. ومن الأسرى من كان يفدي نفسه بالمال, وكان يُراعي الحالة الماديّة لكلّ أسير, فمنهم من دفع أربعة آلاف درهم كأبي وداعة, وأبي عزيز واسمه زرارة بن عمير –وهو أَخٌ لمصعب بن عمير- دفعتها أمّه, وكانت صاحبة مالٍ وفير, ومنهم من دفع مائة أوقيّة كالعباس بن عبد المطلب, ومنهم من دفع ثمانين أوقيّة كعقيل بن أبي طالب, وقد دفعها له العباس, ودفع بعض الأسرى أربعين أوقيّة فقط. أمّا من لم يكن معه مال, وكان يَعرفُ القراءة والكتابة فكان فِداؤه أن يُعَلِّم بعض المسلمين القراءة والكتابة؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس قال: كَانَ نَاسٌ مِنْ الأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِدَاءٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلادَ الأَنْصَارِ.
ومن الواضح أنه تم إطلاق سراح من بقي من أسرى بدر خلال أقل من عامٍ من غزوة بدر, ومما يؤكِّد هذا الأمر أن المشركين في أُحُد لم يتفاوضوا على أيِّ أسرى.
أسرى مكة : وهذا من أعظم المواقف في السيرة النبوية –وخاصة إذا وضعت التاريخ المظلم لقريش مع رسول الله- فقد فتح رسول الله مكة, ودان له كُلُّ من فيها, وأصبحوا ملك يده, وله حق التصرف فيهم كما يشاء, فماذا فعل؟ لقد قال لهم: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟".. قالوا: خيرًا, أَخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم.. قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
ويتضح لنا بجلاء من لفظ الطلقاء أنهم كانوا في حكم الأسرى, ومَنَّ عليهم الرسول بإطلاق سراحهم, ولم يمسهم بأدنى سوء؛ بل إنه أكرمهم وأنزلهم منزلة عالية, مما يدلّ على سُمُوِّ أخلاقه ورحمته.
**** د. راغب السرجاني