قائد الطوفان قائد الطوفان

زوجة مشتهي تنافس خنساوات فلسطين

الرسالة نت  - أمل حبيب

تبحث عن بقايا شبابها فتجده في صورة حبيبها المبتسم.. تحلم بأمومتها المسلوبة فتجدها في لهفتها وخوفها على رفيق ماضيها وحاضرها ومستقبلها.. هي امرأة تعيش في زمن أوشك على الانقراض متمسكة بذكريات ستة أشهر قضتها مع زوجها الغائب الحاضر.. تشتم فيها رائحته بجنبات المنزل وتسترجع أحاديثه وتتمنى أن تقر عيناها بلقياه.

الجلوس معها والحديث إليها لا يمل، وخصوصا وهي تتغزل بزوجها الأسير روحي مشتهى.. لدرجة أنك سوف تتمنى أن تقابل البطل الذي حظي بوفاء دام ربع قرن!!..

وبعد معاناة السنين العجاف من حرمان وألم هلت البشائر على الأربعينية رائدة سويدان مشتهى بأن نصفها الآخر سيفرج عنه ضمن صفقة التبادل.

"هل فعلا سأرى روحي أم أنها مجرد احتمالات؟ ماذا سأقول.. اشتقت إليك؟.. أم أن كلماتي ستخونني وسيتواطأ الصمت والدموع على صمود السنين فينهار؟".. ما زالت رائدة تعيش حالة  ترقب حذر وفرحة ممزوجة ببعض القلق، وتضيف: "ما راح أصدق إلا لما أشوف روحي واقف أمامي (...) اليهود ما الهم أمان", فمنذ أن ألقى خالد مشعل -رئيس المكتب السياسي لحركة حماس- خطاب الإعلان عن توقيع صفقة التبادل وسعادة رائدة ينغصها القلق، فلها الحق بأن تقلق وخصوصا بعد عذابات سنين وليالٍ.

ما هو الدافع ؟

وبعد أن تتعرف على بطلة قصتنا الفريدة من نوعها ستعلم أنك ستلقبها فورا بـ"رائدة الوفاء".. فما الذي دفعها لانتظار روحي رغم أنها كانت في مقتبل عمرها؟..

أصرت زوج روحي أن نشرب كوب عصير الفاكهة "بهيج اللون" قبل الإجابة, فكل شيء من حولنا كان يعزف سيمفونية الفرح.. رائحة المنزل المعطرة.. بشاشة الحاضرين.. حتى حديث السيدة رائدة لـ"الرسالة" لم يخلُ من السعادة المتزنة..

انتهى كوب العصير وعدنا لطرح السؤال الذي يحيرنا: ما هو دافع وفائك المستحيل في مثل حالتك وخصوصا أنك قضيت معه ستة أشهر فقط؟.. تجيب بلهفة المشتاق: "حبي لروحي لله وفي الله، فلا أتخيل حياتي دونه (...) مش بشطارتي صبرت.. استمديت القوة من الله ومن حفظي لكتابه", وتابعت: "أعيش تحت ظل الآية: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب, فلقد أعانتني كثيرا في تحمل الانتظار والصبر على الابتلاء".

واتخذت "أم جمال" من القرآن أنيسا لوحدتها فوفقها الله بحفظه, وحصلت على دورات في أحكام التجويد, ولازمت بيوت الله ولديها علاقات اجتماعية متينة حتى تملأ فراغ حياتها وتؤنس وحدتها.

هما ثنائي رائع.. حبهما كان خالصا لوجه الله فعاشا رغم قهر الاحتلال وظلم السجان, فمنذ أن خطبها روحي وهي تعلم طريق عمله الجهادي ووافقت بغية الأجر من الله.

لوعة الانتظار

ما أقسى سنوات السجن على أم جمال فليس وحده روحي من يعذب, فهما كعصفوري "كناري".. أسيران لسجان واحد ولكن في قفصين مختلفين إن فك أسر أحدها سيتحرر الآخر تلقائيا..

عادت أم جمال إلى أول زيارة لروحي بعد أربعة أشهر من الاعتقال حينما عرض عليها الانفصال مبررا ذلك بأنها ما زالت شابة والحياة أمامها, فغضبت رائدة وقتها واندفعت كلماتها في وجه زوجها: "لماذا الأنانية؟.. أتريد الأجر وحدك؟.. أنت تصبر خلف القضبان وأنا سأنتظرك طوال العمر".. ما أجمل كلماتك يا رائدة الوفاء!!.. تسطرين بوفائك وصبرك أروع قصة حب طاهرة.

قطعت حديثنا مجددا سلة الشوكولاته الفاخرة "حلوان" نبأ الصفقة؛ فلقاء الحبيب قد اقترب ولا بد من أن نتذوق طعم الفرح والحرية.

واعتادت أم جمال إخفاء ألمها أمام الآخرين ليستمدوا قوة من صمودها, ولكن يبدو أن (الرسالة) "وضعت يدها عالجرح" حينما سألتها عن أكثر المواقف التي أحست فيها بحاجتها لروحي, فكانت تعابير وجهها توحي بأنها سترد علينا بعفويتها المرحة لكن دموعها خانتها لأول مرة وهو تجيب ببحة: "بشتاقلو برمضان.. بدور عليه ليلة العيد.. نفسي يطلع عشان يحضر معاي رمضان والعيد".. دموع رائدة وعدتها مسبقا بألا تخونها ولكن عند لوعة الاشتياق لا بد من ذرفها.

من لا يعرف البكاء سيتعلمه عندما يسمع كلمات أم جمال المؤلمة وهي تبحث عن رفيق دربها لتشكو إليه ما فعلت بها سنين الحرمان.. كفكفت دموعها وعادت لترسم على وجهها ابتسامة دافئة حينما تذكرت الصفقة: "عندي أمل أشوفوا.. إن شاء الله راح أعوض كل سنين الغياب".

رجل من زمن الصحابة

لا بد من أن ينتابك عزيزي القارئ سؤال يحيرك: من هو ذاك الرجل الذي يستحق هذا الوفاء والتضحية؟.. "هو رجل من زمن الصحابة"، يقول الدكتور عزيز دويك خلال اتصال هاتفي مع أم جمال ليشد من عزيمتها بعد أن تقابل مع زوجها روحي في سجن هداريم, وقال لها فور خروجه من الاعتقال: "أهنئك لصبرك وانتظارك لرجل من زمن الصحابة يستحق عمرك بأكمله".

لم تسع الأرض فرح أم جمال حينما أخبرها رئيس المجلس التشريعي أن الرجل الذي تنتظره كل هذه السنين يستحق ذلك الوفاء.. هي تعلم أنها حظيت بإنسان مؤمن سلك طريق الجهاد وعلى قدر عال من الأخلاق الحميدة كما كانت تدعو الله, ولكن كلمات دويك أعطتها دافعا أكبر للتحمل والانتظار.

ثم عاد بها شريط الذكريات سريعا إلى أجمل الأشهر التي عاشتها مع روحي في منزلهما التي ما زالت تقيم فيه.. تلك الأيام المعدودة التي أحبت فيها البطل المجاهد والرجل المؤمن الصادق, وكيف أن قدر الله غالب في أن تأتي من الأردن -حيث إقامة أهلها- إلى غزة لتكون بطلة لأروع قصة وفاء وتضحية.

ذهب مشوار وسيعود

وخلال شهر رمضان الماضي شعرت رائدة بأن لقاءها مع روحي قد اقترب؛ فطيفه يلاحقها في كل مكان وكأنه ذهب مشوارا وسيعود, فجهزت البيت لاستقبال الضيوف وغيرت فيه بعض الأمور, وأرسلت مع المحامي رسالة إلى "روحها" تقول فيها: "قربت.. قربت"، وكأنها شمس الحرية التي أوشكت على البزوغ.

وخلال حديثها المشوّق إلينا تكشفت معالم شخصيتها المعطاءة بروعة حبها وخوفها على زوجها الأسير وهي تقول: "أخاف على روحي ونفسيته عند خروجه وقد توفي والداه وأحد أشقائه بعد صراع مع المرض.. واستشهد شقيقه مهدي (...) يا رب صبره".

ما أصدق مشاعرها لدرجة أنها تخاف على روحي من تغيير الجو والوضع الجديد عليه!!.. وخصوصا أن جيلا كاملا قد تغير بربع قرن, ووجوه جديدة لم يألفها.. "حتى شوارع القطاع وبيوت الجيران جميعها قد تغير".

وبعد أربعة وعشرين عاما ما زال الأمل يحدو رائدة الوفاء بأن يهبها الله "جمال" ليتحول من كنية أحبتها إلى طفل يحمل اسم والده البطل ويسليه بعد أن اشتعل الرأس شيبا.  

واليوم تستعد الشجاعية بأكملها لاستقبال عميد أسراها, فمعظم الأقارب والأحباب يتوقون شوقا لرؤية أحد مؤسسي الجهاز الأمني لحركة حماس "مجد" والمحكوم بالسجن المؤبد أربع مرات وعشرين عاما.

أما القابعون خلف قضبان القهر فيضحون ويذوقون مرارة السجن لكن هنالك أبطالا مجهولين يتألمون بصمت خلف الكواليس, ومنهم خنساوات فلسطين وأراملها، واليوم لقب جديد عرفناه بعد قصة انتظار دامت ربع قرن.. فاخترناه لرائدة مشتهى وأمثالها وهو" رائدات الوفاء"..

ونتمنى أن يفك القيد عن "عصفوري الكناري" ليغردا من جديد.. وسيكون لنا معهما لقاء في عشهما بالقريب العاجل.. تابعونا..

البث المباشر