غزة/لميس الهمص
لم تكن أم أحمد راضي تعلم أنها تخطو باتجاه موت حملته سيارة نقل المياه التي خطفتها من فوق الرصيف، ليتبين فيما بعد أن سائقها لا يحمل "رخصة".
وبدون رخصة أيضا تعمل عدد من محطات تحلية المياه، بعيدا عن أعين الرقابة، ناقلة في خزاناتها التلوث والمرض معا.
وتشير الإحصاءات الصادرة عن وزارة الصحة أن عدد محطات تحلية المياه بلغ ثمانية وأربعين, هي فقط من يشرف عليها، في حين تتحدث سلطة المياه عن وجود سبعة وثمانين محطة من بينها ثلاثة وثلاثين فقط مرخصة، ما يعني أن هناك ثمانية وثلاثين محطة خارج الرقابة.
"الرسالة" تفتح ملف سيارات نقل المياه المنتشرة في قطاع غزة، وتثير التساؤلات عن مدى الرقابة المفروضة على محطات تحلية المياه، وشروط السلامة للمياه للسيارة والسائق.
***أدوات قتل
بعبرات لفها الحزن اعتبر خالد راضي زوج أم أحمد أن بعض سيارات نقل المياه وسائل جريمة يقودها من لا يملك رخصة أو خبرة في قيادة ذلك النوع من السيارات التي تحتاج قوة دفع خاصة لثقل وزنها.
ويشير راضي إلى غالبية من يقود تلك السيارات هم من الشبان الصغار ودون أن تحمل سياراتهم أدنى أدوات السلامة.
ويقول: سائق السيارة التي قتلت زوجتي يعمل في توزيع الماء منذ ثلاث سنوات دون أن يحصل على رخصة, وألقي القبض عليه أكثر من ثلاثة مرات إلا انه في كل مرة كان يخرج بكفالة.
واستنكر زوج الضحية السماح للشاب بممارسة عمله مجددا دون تعهد أو مراقبة، معتبرا أن ما يجري هو معالجة حالات فردية دون متابعة أصل المشكلة.
ويروي راضي أن زوجته لم تكن تنوي قطع الشارع بل السيارة هي صعدت على الرصيف, حيث قتلتها ومن ثم سحبتها بمسافة 40م بسبب السرعة الزائدة.
ويبدو أن تجربة عائلة راضي مع سيارات نقل المياه مريرة حيث تعرضت والدة زوجة راضي لحادث بسيارة توزيع ماء بعد وفاة ابنتها بأسبوعين ليهرب السائق بعدها دون محاسبة.
واتهم راضي المسئولين بالتقصير في معالجة المشكلة من أصلها، مبينا أن من لا يملك رخصة قيادة أو سيارته لا تحمل أدنى شروط السلامة يجب أن يوقف على الفور كون ما تتسبب به تلك السيارات تعد ظاهرة وليست حالات فردية.
وذكر أن صاحب شركة التحلية الذي يعمل عنده السائق المتسبب بوفاة زوجته استدعته الشرطة للتحقيق معه والعودة لمنزله مجددا, لولا تدخلات كبيرة أفضت الى إعادة التحقيق معه واحتجازه.
****حملة مراقبة
من جانبها أكدت شرطة المرور على قيامها بحملات جديدة على سيارات توزيع الماء, فيقول العقيد على النادي مدير شرطة المرور: ركزنا على سيارات توزيع الماء خلال الفترة الأخيرة ومنعنا عددا منها من العمل.
وأوضح أن بعض تلك السيارات لا يملك العاملون عليها رخص قيادة كما أن مواصفات السيارة غير ملائمة، مشيرا إلى أن بعض المحطات تلجأ لعمل صهاريج يدويا وتثبيتها في المركبة ببراغي غير آمنة وذلك مخالف للقانون.
وبين أنهم أوقفوا عددا من مركبات نقل المياه حتى تسوية أوضاعها، مشيرا إلى أن الرقابة تشمل السائق والسيارة والصهاريج التي تحملها.
ومن الحالات التي وصلت "الرسالة" دهست سيارة نقل المياه طفلا في مدينة دير البلح أثناء محاولة السائق الرجوع للخلف.
ويوجب القانون أن يكون مع السائق مرافق ليتمكن من مشاهدة الطريق ومساعدته أثناء القيادة خاصة أن تلك السيارات تدخل لأزقة ضيقة مكتظة بالأطفال والمارة.
من جهته, قال الرائد فهد حرب مفتش تحقيقات حوادث المرور إن خطورة هذا النوع في المركبات يكمن في مهمة عملها لدخولها في الشوارع الضيقة والأزقة والمخيمات حيث الاكتظاظ السكاني وتواجد الأطفال.
وبين أن الرجوع للخلف يعد من أكثر مسببات الحوادث هي عوائق مجال الرؤية، داعيا السائقين للالتزام بالسرعة القانونية.
وطالب حرب السائقين بالالتزام بالحصول على كل الأوراق الثبوتية له وللمركبة وللصهريج الذي يحمل الماء، لافتا إلى أهمية الانتباه من قبل السائقين أثناء الرجوع للخلف وتكليف شخص بالنظر للطريق.
وواضح أن التأكد من صلاحية المركبة ميكانيكيا وفنيا من الضروريات خصوصا الأنوار الأمامية والخلفية.
***ندفع فاتورتين
استنزاف المياه الصالحة للشرب وتردي جودتها في القطاع، دفع السكان إلى الاعتماد على سيارات المياه المتجولة التي تجلب المياه المحلاة من محطات التحلية التجارية التي انتشرت وأصبحت ظاهرة من صميم روتين الحياة اليومية لسكان القطاع -الذين يحرصون على انتظار سفارة سيارات نقل المياه للتزود بما يكيفهم من مياه الشرب.
مركز الميزان لحقوق الإنسان أشار في ورشة عمل نظمها بناء على بعض النتائج التي توصل لها بعد فحص عينات من المياه المحلاة إلى أن أكثر من 50% من محطات التحلية غير مرخصة ولا تخضع للرقابة في قطاع غزة.
كما أن المشكلة تتزايد وتتراكم نتيجة التلوث الكبير الذي تشهده مياه الشرب، وقلة هطول الأمطار التي تعد أحد أهم مصادر تغذية الخزان الجوفي، وزيادة الطلب على المياه.
وفي ظل هذا الوضع الخطير للمياه في قطاع غزة، قامت الجهات المعنية بقطاع المياه في إيجاد مصدر بديل لمياه الشرب وهو تحلية المياه الجوفية خاصة، كما استثمر القطاع الخاص في إنشاء العديد من محطات التحلية الخاصة التي تبيع مياهها المنتجة إلى المواطنين.
ولفت المركز إلى وجود قصور في الرقابة على محطات التحلية ووجود عدد كبير من هذه المحطات بدون ترخيص والذي بدوره يبرر وجود تلوث فيما تنتجه هذه المحطات من مياه.
مواطنون من غزة أبدوا امتعاضهم من استمرارية تعبئة الخزان أسبوعيا، ويصف المواطن مهدي "27 عاما" معاناة التوزيع، بقوله: يأتي موزع المياه بشاحنته -والله أعلم إن كان ينظفها دوريا أم لا-، ثم يعطيني "الحبل" لأسحبه بمشقة إلى سطح منزلنا المكون من خمس طوابق ليحمل مع كل طابق ميكروبات وملوثات جراء ارتطامه بالأرض والجدران.
وناشد مهدي المختصين بالإسراع في حل هذه القضية وإعادة مياه الشرب لسابق عهدها، أي تضخ عبر شبكات البلدية.
وأوضح بأنه يدفع فاتورتين للمياه، الأولى لمحطة التحلية من أجل تعبئة خزان مياه الشرب أسبوعيا، والأخرى تأتي من البلدية شهريا.
ووصف الرقابة على محطات التحلية بالسيئة والضعيفة، مستغربا توزيع المياه عبر سيارات لا تخضع لأية مواصفات صحية- حسب قوله.
***غير ملوث
من ناحيته قال عبد السلام ياسين -مدير شركة ياسين المصنعة لمحطات التحلية- "للرسالة": طالبنا وزارة الصحة عدة مرات إجبار السيارات على وضع الكلور بمقدار 4سم مربع على كل متر مربع داخل صهاريج توزيع لحل الأزمة إلا أن ذلك لم ينفذ حتى اللحظة.
وأضاف ياسين: وضع الكلور في الصهريج يحل العديد من المشاكل ويقضي على التلوث حتى ولو كانت براميل المنازل غير نظيفة ومعرضة لأشعة الشمس.
وتابع: المشكلة أن المواطنين لا يستسيغون طعم الكلور في الماء على الرغم من انه حل لجميع المشاكل ويكون غير ملاحظ بصورة كبيرة، مشيرا إلى أن هناك فلاتر كربون يمكن لأي منزل اقتنائها وتمرير الماء عليها للتخلص من طعم الكلور.
وذكر أنه رغم عدم انتظام متابعة وزارة الصحة إلا أنها توقف عمل أية محطة يثبت تلوثها.
ونصح ياسين المواطنين بغسل خزانات منازلهم المخصصة لمياه الشرب كل 15 يوم بمادة الكلور للقضاء على الجراثيم.
وأكد أن شركته لا تملك سيارات توزيع، كما أنهم يرفضون التعبئة لأية سيارة لا يحمل سائقها رخصة قيادة، مشيرا إلى أن هناك بعض السائقين لا يحملون رخصا.
وذكر ياسين أن غالبية المياه الناتجة عن المحطات هي صالحة للشرب وخالية من التلوث إلا أن تعرضها لنقل سيء أو خزانات غير نظيفة هي التي تسبب التلوث.
ويؤكد العامل بشير محمد "44 عاما" الذي يملك محطة تحليه صغيرة أسفل منزله وسط مدينة غزة أن السبب الذي دفعه لتدشين المحطة هو قلة فرص العمل في القطاع، مشيرا إلى أنه يجني مبلغا من المال لا بأس به سنويا.
وتقوم آلية تحلية المياه على استخراج المياه من الأرض عن طريق مضخات أرضية، ومن ثم تدخل مرحلة الفلترة، وبعد ذلك تخزن في أوعية كبيرة، وانتهاء بسحبها إلى الشاحنات التي توزع المياه النقية لمنازل المواطنين.
وأشار إلى أن محطته تنتج 40 كوبا يوميا توزع على مدار يومين، مبينا أن سعر ربع الكوب من الماء يبلغ 15 شيكلا (الكوب =1000 لتر).
وعن مدى نظافة الآلات المستخدمة في الفلترة، يؤكد بأن الناس لا تشتكي من المياه التي يوصلونها إليهم، عازيا ذلك إلى استمرارية التنظيف وعملية الكلورة للأنابيب.
محمد لا يستفيد قطعيا من عادم المياه الذي تخرجه محطته، حيث ينتج 20 كوبا عادما من 70 كوبا من ماء البئر، بينما في محطة أخرى شرق مخيم الشاطئ أكبر حجما من سابقتها تنتج 60 كوبا يوميا تستفيد من العادم، وقد تنقلت "الرسالة" بين خزانات مياهها وأنابيب الفلاتر "تحت الأرض".
***نقل وتوزيع غير صحي
وتعتمد محطات التحلية على طريقة التناضح العكسي، التي تعمل على تقسيم مياه المصدر إلى قسمين، مياه محلاة بتركيز أملاح منخفض يجري تسويقها، ومياه عادمة بتركيز أملاح مرتفع يجري التخلص منها غالباً عن طريق شبكة الصرف الصحي.
وفي هذا السياق ذكر م. محمد أحمد مدير عام سلطة المياه أن أول المحطات العاملة بالقطاع كانت عام 93م وتتبع لشركة (إسرائيلية) بطاقة إنتاجية من 40 إلى 50 م مكعب بالساعة.
ولفت إلى أن أول تجارب فلسطينية للاستثمار في هذا المجال كانت بعد قدوم السلطة في العام 99م وبدء العمل بعدد قليل من المحطات، مبينا أن سلطته سمحت بالاستثمار في هذا المجال لعجز البلديات عن توفير المياه الصالحة للشرب للمواطنين بسبب ازدياد ملوحتها، بالإضافة لخلق فرص عمل خصوصا مع بداية الانتفاضة الثانية.
وتعد سلطة المياه صاحبة الاختصاص في الرقابة بحكم القانون, ووفق أحمد فإن عدد المحطات زاد في القطاع حتى بلغ 86 محطة, المرخص منها 33 فقط بينما العدد الباقي وهو 53 غير مرخصة ، 16 محطة منها تحت الترخيص قدمت أوراقها ولكن لم تكملها بعد.
ويشير إلى أن سلطة المياه حولت ملف 24 محطة للنائب العام لأخذ الإجراءات القانونية بحقها.
بينما أكد الدكتور فؤاد الجماصي مدير دائرة صحة البيئة في وزارة الصحة أن عدد المحطات الموجودة في قطاع غزة بلغ 48 محطة فقط وهي التي تشرف عليها وزارة الصحة وتأخذ منها عينات لفحصها موزعة بواقع 14محطة شمال القطاع ، و 6 في المنطقة الوسطى ، وفي مدينة خانيونس 5 وكذلك في رفح 5 و16 في مدينة غزة.
وذكر م.أحمد أن آليات الترخيص تعتمد على موافقة البلدية لكونها حرفة وللمحافظة على صحة المواطنين لاعتماد الترخيص على المكان والشروط الصحية له، بالإضافة لموافقة وزارة الصحة، علاوة على ترخيص وزارة الإقتصاد والسجل التجاري لكونها مهنة ربحية.
ولفت إلى أن كل جهة معنية بالرقابة على الجزء الذي يخصها والمتعلق بها، مبينا أن الاجراءات الرقابية تكون ببرنامج مشترك مع وزارة الصحة في اخذ العينات ورقابة على نوعية المياه من ناحية الملوحة وعدم توثلها بيلوجيا.
وأكد مدير السلطة أن آبار المياه الجوفية خالية من التلوث الميكرو بيولوجي تماما، مشددا على ان التلوث يتسبب به قرب المياه من مياه الصرف الصحي وعندها لا تمنح المحطة الترخيص.
وبين أن نسبة التلوث في المياه المنتجة من المحطات قليلة جدا لاعتمادها على التعقيم بالكلور والأشعة الفوق بنفسجية إلا أن التلوث يحدث عند نقلها في الخزان وعدم تنظيفه.
واعترف م.احمد أن الرقابة ليست دقيقة 100% لكثرة عدد السيارات ومحلات البيع مما يصعب عملية مراقبتها، موضحا ان سلطته تأخذ تعهدا على أصحاب المحطات بغسل خزانات المياه اسبوعيا بالكلور وتعقيمها إلا ان ذلك لا يحدث.
وذكر أن العاملين في المجال غير مؤهلين او مختصين، مبينا أن وزارة الصحة تشترط في باعة الماء والموزعين خلوهم من الامراض.
ولم يستبعد مدير السلطة وجود بعض محطات التحلية غير المعروفة لدى السلطة حيث اكتشفوا 6 محطات جديدة خلال شهر واحد.
وشدد على حرصهم تقليل كمية المياه المالحة الناتجة عن التحلية غلى نسبة 5%مع حلول عام 2012م ، مبينا أن نسبة المياه المالحة المستهلكة حاليا تصل لـ30%.
***نراقب بشدة
بدوره اعتبر د. الجماصي، مدير دائرة صحة البيئة في وزارة الصحة، أن مراقبة المياه من أهم مهام دائرته وذلك لشدة أهميتها للوقاية من الأمراض المعدية والمحافظة على البيئة والصحة العامة.
وعزا سبب اللجوء للمياه المحلاة إلى ارتفاع التلوث في مياه الصنابير القادمة من البلدية لنسبة 95% أي أنها غير صالحة للشرب نتيجة ارتفاع المحتوى الكيميائي، مبينا أن ذلك الحل فيه كمية كبيرة من المياه المفقودة مما يزيد العبء على المياه الجوفية.
وتظهر نتائج الفحوصات أن ما نسبته 85% من المياه مطابقة لمنظمة الصحة العالمية بينما تشترط المنظمة نسبة 96% والسبب في تراجعها عدم انتظام عملية الكلورة كون المواطن لا يقبل طعم الكلور في الماء.
ووفق الجماصي فإن دائرته تراقب على المحطات وسيارات النقل وخزانات المحال التجارية، مشيرا إلى أنهم خلال العام 2010 م فحصوا 282 عينة من محطات التحلية 484 من الخزانات في المحال التجارية و14 عينة فقط من سيارات التوزيع أي بواقع 780 خلال العام، معتبرا أن ذلك يدلل على حجم العمل الذي تقوم به الدائرة.
ويرى الجماصي أن الخلل يحدث بعد توفر الشروط الصحية في النقل والتوزيع بحيث يرتطم خرطوم المياه بالأرض ومن ثم ينتقل للتعبئة للمواطنين، مبينا أن صاحب السيارة يجب أن يحمل الكلور لتعقيم الخرطوم قبل التعبئة إلا أن ذلك لا يحدث.
ويشير إلى أنهم يشترطون في الخزانات أن تكون من مادة "ستانلستيل"، موضحا أنهم يأخذون عينات للفحص من المحطات المرخصة وغير المرخصة.
وينصح د.الجماصي المواطنين بإضافة ماء من البلدية بكميات قليلة لمياه الشرب لتعويض بعض الأملاح النافعة التي يفقدها الماء أثناء عملية تحليته.
يذكر أن بلدية غزة أكدت على أن "مشكلة المياه إحدى أهم وأخطر المشاكل التي ستواجه سكان قطاع غزة خلال السنوات المقبلة، وأنها ستتفاقم إلى حد كبير"، داقَّة ناقوس الخطر بقولها إن جل مياه القطاع، وبخاصة في مدينة غزة، ستكون "غير صالحة للشرب" بعد عشر سنوات فقط.
"الرسالة" تلقي مشهد قصة الماء ابتداء من المحطة مرورا بالسيارة وانتهاء بالسائق في حجر المسئولين لتدارك الأخطاء وتجنب الكوارث.