قائمة الموقع

أفراح حزينة

2011-10-27T12:41:05+02:00

رشا فرحات

ابتسم، عشرون عاما مضت، لماذا يراها أكثر؟، تغلق الزنزانة خلفه، فيقف قلبه ولا يستطيع الالتفات، يد من خلف القضبان بقيت هناك، تتمسك بنافذة صدئة، عينان تنظران إليه، ابتسامة مرتجفة، تلوح وداعاً، وسجان يجر آخر ما تبقى من أمل، اسمه مدروج في تلك الصفقة، واسم ذلك الأسير سقط عنوة، وكأنهم يحاولن تحقيق نصر مخذول، فرقة صديقين، فراق الروح للروح، لا أفراح في فراق الأرواح، نظرة للخلف، استرقتها عيناه خلسة، فتصاعد الوجع راكضاً وراءه ملتصقاً بذاكرته إلى الأبد.

ولج إلى البيت، خطوات متسارعة مع دقات قلب راكضة ويدين مرتجفتين، نظر في أرجاء المكان القديم، سقطت عيناه على أشجار زرعتها يدا أمه هنا، قبل سنين، لم يكن حينها موجوداً، أمه تدور حوله، تتراقص على نغمات الحرية، وتعلو زغاريتها في أرجاء المكان، تتوشح ثوباً جديداً طرزته خصيصاً لهذه المناسبة، يرقد في خزانتها منذ سنين، يتلمس وجع انتظارها، وهو يقف في المنتصف، ينظر إلى عيون النسوة الراقصات حوله، وصفقات أيديهن تتمايل بالحناء، وكل منها تقول أنها أخته، و قبيلة من الأطفال على باب البيت يتزاحمون، ينظرون إلى وجهه الذي لا يعرفون، يوم ولدوا مع مطلع نهار قديم، حيث لا ولادة في المعتقل، ولا ضوء في الزنزانة.

يدخل إلى غرفته، يخلع ملابسه القديمة، يناوله أخوه قميصاً جديداً، وبنطالاً، وحذاءً لامعاً، يفركه بفرشاة اسفنجيه، قد لا يعرفها، ولم يراها، قبلاً ، يرش بعض من رذاذ عطر على جسده، ويضحك، يخبره أخوه عن اسم العطر، فيزداد ضحكاً، لا عطر في الزنزانة، ولا قميص جديد، هي تلك التفاصيل  التي غابت مع غياب الذاكرة والولوج إلى المجهول.

تدخل أمه إلى غرفته، تتمايل كما هي، لم تتوقف عن الرقص والتلويح بغطاء رأسها الأبيض، ليس عيداً، فلم تعتد الرقص في الأعياد منذ عشرين عاماً، تتوحش هذه الضحكة، فلم تعتد خروج الضحكات من فمها منذ عشرين عاماً، ترتفع دقات الطبول، حيث لا طبول تدق هنا منذ عشرين عاماً.

تبتسم أمه ابتسامتها، وتضع أمامه صينية مليئة بالطعام، يضحك، يزداد ارتفاع الضحكات، يسأل:

ما هذا يا أمي

زوج من الحمام

لم اعتد طعم الحمام يا أمي

تعود الخواطر إلى البعيد، تطير مع نسمات الحرية، إلى حيث الطيور الجارحة ترقد وحيدة، مستوحشة غياب الأصدقاء، تقف أول اللقيمات أمام شفتيه، استعصى عليه بلعها، ثياب جديدة، وقميص ملون، وحذاء لامع، وزجاجة عطر لا يعرف اسمها، وزوجين من الحمام المحمر، وصديق قديم تركه هناك، وحيدا في غياهب السجون.

اخبار ذات صلة