بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 -التي وافقت الثالث والعشرين من شهر جمادى الآخرة عام1422- عاش العالم الإسلامي عشر سنين عجاف؛ تضاعف فيها استعلاء الدول الكافرة على المسلمين، وزادت جرعات القهر والإذلال، ولعل هذه العشرية الخريفية أن تكون خاتمة لقرون الانكسار التي عاشها عالمنا الإسلامي.
وبعد عشر سنوات من خريف المهانة؛ أي في عام 1432 -الذي يوافقه عام 2011 م- اندلعت ثورات عربية مباركة -بإذن الله-، فطردت تونس مجرمها، ثم جعلت مصر فرعونها متهماً في قفص، وألجأت ليبيا جبانها إلى الاختفاء، وأحرقت اليمن ثعلبها، وهزت الشام أركان النظام النصيري تمهيداً لإسقاطه، ولا زال المرجل الشعبي يغلي في بلدان كثيرة رجاء الفرج والحياة الكريمة؛ وإن اختلفت الحال من بلد لآخر.
وما من شيء يمنع تكرار هذه الثورات في كثير من بلدان المسلمين، لأننا لو حصرنا جميع الأسباب المحتملة للثورات السابقة لرأينا أنها متوافرة في بقية البلدان فمقل ومستكثر، وما يدرينا لعل الله شاء في غيبه أن تكون هذه الأحداث فاتحة لعشرية ربيعية تزدهر بعدها بلاد المسلمين؛ وتكون مقدمة لعصور جديدة تختلف عما سبقها؛ باختلاف الناس أولاً وتغييرهم ما بأنفسهم إلى الخير والإصلاح، والعزيمة الراشدة والتعاون على البر والتقوى:ﭽ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗﭼ الرعد: ١١.
وعسى أن تؤول هذه الأحداث إلى استقرار تلك البلدان وتصالحها مع دينها وموروثها، مع فتح الباب للمشاركة الشعبية الواعية، وارتفاع سقف الحرية فلا تتطامن عن شيء سوى الوحيين الشريفين والأحكام الموافقة لهما. وأن يحاط المال العام بالحماية من السرقة والآفات، وينصاع الكافة للنظام دون حصانة أو تمييز، وترفع المآسي التي أثقلت كاهل الشعوب، وتلبى حاجات الشباب، وأن يكون الحاكم خادماً لشعبه، ويشرف به البلد وأهله، وأن تعود لبلدان المسلمين استقلاليتها وقوتها.
لقد تخلص العرب حتى الآن من ثلاثة زعماء يبلغ مجموع سنوات حكمهم مائة عام تقريبا، وخلال هذه السنوات لم يحقق أحد منهم لبلده الحد الأدنى المرجو من حاكم يشعر أن شعبه بشر يشتركون معه في البنوة لآدم عليه السلام، وأن عليه واجبات تجاههم، وإن كنت أشك بوجود هذا الشعور لدى مَنْ قضت الثورات عليه وعند كثير ممن ينتظر سياط الشباب الذين لم يجدوا عملاً ولا مسكناً ولا زوجةً ولا أذناً صاغية أو حتى كلمة حانية.
وثم مسألة مهمة؛ فالذي ينتقل من بيت صغير إلى آخر أكبر منه يتعجب كيف كان يعيش في مسكنه الضيق، وأظن أن أهلنا في البلدان المحررة قد شعروا بذلك، فكيف رضوا بحاكم لا يملك مقومات الزعامة وفي الأمة ألوف أولى منه؟ وكيف صمتوا عن طغاتهم خلال عقود الإجرام والسرقة والاحتقار؟ والأكثر أهمية من ذلك كله: هل سيقبلون عودة هذه التجربة الكئيبة؟ والمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين!
ومع هذه التقلبات التي تعيشها ديار المسلمين، يبرز الأثر الريادي المطلوب من المصلحين الذين يقدمون النفع العام على المكتسبات الشخصية، وكم هو جدير بالعلماء وقادة العمل الاجتماعي والدعوي والفكري أن يكون لهم موقف صدق وتغليب للمصلحة المستقبلية على النظرات الآنية القصيرة، فليس من المعقول أن تكون الشعوب رهينة مفاجآت لا يعلم عنها سوى الحزب الحاكم؛ هذا إن كان يعلم! وإن ورود الماء بماء أكيس كما قال أسلافنا، والاستعداد المسبق أمر معدود في الحكمة وحسن التدبير.
ومن موافقات سنة 1432 أنها شهدت طي صفحة الخريف وتفتح أوراق الربيع، وفيها اغتال الأمريكان أسامة بن لادن، وأحرق الظلم محمد البوعزيزي، وخذل الله المجرمين وأعماهم عن سبيل الخلاص، ولعله سبحانه أن يهدي الشعوب ويوفقها لما فيه خيرها حالاً ومآلا، فهذا أوان عصر تكون الكلمة فيه للأمة المستمسكة بأمر ربها، الساعية في تشييد حضارتها وصناعة مجدها، ومَنْ يدري لعل التاريخ سيجعل من خريفنا المنتهي وربيعنا المبتدي مادة عبرة وعظة لجيل كريم قادم.