قائمة الموقع

البندك: قهرت السجان بضحكتي حين تنفيذ الصفقة

2011-10-28T14:24:14+02:00

غزة – مها شهوان

عندما كانت تتسلل خيوط شمس الحرية إلى زنزانته كان  الأسير حينها كريستيان البندك -32 عاما- يعدها أنه سيخرج إليها رغم المؤبدات الأربع التي حوكم بها لقتله جنودا صهاينة، فقد كان يحدوه الأمل ويقهر سجانه بابتسامته التي لطالما أودت به إلى زنازين منفردة ليقضي شهورا داخلها دون رؤية أحد من إخوانه الأسرى، فضحكته الدائمة منحته الحرية بعدما قضى سبع سنوات داخل سجون الاحتلال لم يزره خلالها سوى أخيه الذي يكبره بعامين ووالدته التي توفيت بعد أربع سنوات من أسره.

رحلة حب الوطن والدفاع عنه بدأت لدى المحرر المسيحي البندك حينما كان في سن صغيرة حيث اعتقل لأول مرة بعمر تسع سنوات لمدة ساعتين عندما كان يرمي الحجارة على الجنود (الإسرائيليين)، وكذلك علاقته بالعائلات المقاومة كعائلة عبيات التي قدمت الكثير من الشهداء في مدينته بيت لحم.

"الرسالة نت" زارت كريس- كما يحب أن ينادى- حيث يمكث بفندق الكومودور على شاطئ غزة هو وعدد من مبعدي الضفة والقدس، ففي بداية الحديث رفض  تسميته  بالمبعد مشددا على أن غزة والضفة وطن واحد.

الاحتلال والأمريكان حققوا معي

وقع البندك بين يدي الاحتلال عندما كان في زيارة لأحد أقاربه, وما هي إلا لحظات حتى حاصر (الإسرائيليون) البيت وخرج من فيه، وقتها لم يكن ضيفنا المحرر يحمل هويته مما جعله ينتحل اسما مستعارا ، إلا أن الجنود شكوا بالأمر وقالوا " إذ لم تكن أنت فسنهدم البيت على من فيه لان كريس داخله كما وصلتنا المعلومات" بعد تلك الكلمات اعترف أنه من يبحثون عنه فاقتادوه إلى المركز وبدءوا التحقيق معه.

لم تكن لدى ضيفنا نزعة القتل لكن ما دفعه لذلك رؤية دماء الأطفال الأبرياء تسيل أمامه عند قصفهم بطائرات ورشاشات الاحتلال ، فهو شاب فلسطيني يعشق وطنه ثأر للدفاع عنها من دنس الاحتلال كون ذلك واجب وطني يتحتم على كل فلسطيني.

ويصف السجن أنه استمرارية لحالة النضال الفلسطيني من الناحية الفكرية والجسدية فقد كان دورهم كأسرى الحفاظ على ذلك بخلاف النضال الخارجي الذي كان صراعا مسلحا وعملا عسكريا، مشيرا إلى أنهم كانوا يلعبون دورا ايجابيا في استقبال الأسرى الجدد ومساعدتهم على التعايش مع الواقع الجديد.

يقول البندك خلال جلوسه بين اثنين من أبناء طائفته المسيحية الذين سارعوا للالتفاف حوله كون لا أحد له بغزة سوى الأصدقاء:" رغم مؤبداتي الأربع إلا أن الأمل كان لدي بأنني سأخرج رغم أنف السجان فقد كنت دائم التفاؤل حتى جاءت الصفقة وعلمت أن اسمي مدرجا "، مضيفا: كانت تربطني علاقة الإخوة بالأسرى فلم اشعر ولو للحظة أنني انتمي لدين غير دينهم ففي كثير من الأحيان كانوا يمنحونني ثقتهم في الانتخابات.

ويتابع بابتسامة خجولة: خلال تنقلي بين سجن لآخر كان يزجني الجنود في زنزانة لعدة أيام في محاولة منهم لكسر كبريائي وصمودي إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل فكنت مع كل مرة أقوى واقهرهم بضحكتي.

وبعد أن قاطعنا رنين هاتفه ليرد على اخيه الذي يحلم برؤيته ليجتمعوا في بيتهم ويقص عليه حكاياته داخل السجن، عاد يروي "للرسالة" ساخرا من الاحتلال أنه تميز عن الأسرى عبر التحقيق معه من قبل الجانبين (الإسرائيلي) والأمريكي، فبعد مدة من اعتقاله حضر إليه فريق أمريكي للتحقيق في حادثة مقتل أمريكي في بيت لحم خلال تواجده بالأسر فقد كانوا يبحثون عن شخص يحمل تلك القضية، متسائلا كيف لي أن أعلم تفاصيل تلك الحادث وأنا بالسجن وما علاقتي بها؟.

تركت صديقي بالسجن

المحرر البندك كغيره من الشباب الذين كانوا يتقربون من الأسرى القدامى ليتعلموا منهم فقد جمعت ضيفنا علاقة ببعض قيادات مختلف الفصائل كأمثال فخري البرغوثي وتوفيق أبو نعيم وخالد الأزرقي ويحيى السنوار وغيرهم, فتعلم بمدرستهم الصبر والتحدي وإدارة الحياة داخل السجن كون لديهم تجربة رائدة في الوقوف بوجه الاحتلال, فكثيرا ما كانوا يفخرون أنهم جزء من الواقع بانتصاراتهم.

ووفق المحرر فإن السجن بات بالنسبة لديه صفحة طويت سيتعلم منها اخطاء الماضي كي يتجنبها في الحاضر باعتبار أن الانسان لا يدرك قيمة الشيء الا عند فقدانه.

ويستذكر البندك حالته النفسية داخل سجنه أنها في البداية كانت تسوء لفقدانه الحرية لاسيما فترة التحقيقات التي لا تتوفر فيها ادنى مستويات الحياة لأي أسير حيث تنحصر حياتهم بزنزانة لا تتجاوز مساحتها متر ونصف كنوع من الضغط النفسي خاصة لمن لا تجربة لديه .

خلال حديث البندك عن أصدقائه الذين تركهم بالأسر لمعت في عينيه دمعة خجولة لكنه سرعان ما كان يتمالك نفسه ويعلق مازحا:" الرجل الشرقي لا يبكي".

كثيرة هي الأحداث المؤسفة التي يمر بها الأسير داخل سجنه وهذا ما حدث للبندك حينما توفيت والدته واغتيل أحد أصدقائه وقتها شعر بالعجز والقهر وفقدانه للقدرة عن عمل أي شيء من اجلهم مما آلمه أكثر.

لحظة صمت خيمت على أجواء المقابلة وبات كريس يخبئ عينيه إلا أن دموعه خانته وسقطت حينما تذكر صديقه الذي تركه بالأسر ثم واصل حديثه وهو يمسح دمعته: كان البحث عني جاريا منذ أحداث كنيسة بيت لحم وقتها كنت أقاوم من داخلها حتى أصيب صديقي وسلمته للإسعاف لكن قوات الاحتلال اعتقلته.

وبتنهيدة فراق، أضاف: حينما القي القبض علي جمعتني قضبان السجن بصديقي ومكثت سنوات عدة برفقة إلى أن جاء مسئول القسم ليبلغني بالإفراج عني فكانت تلك اللحظات أصعب شيء مررت به في حياتي لم اعلم وقتها ماذا أقول لصديقي وإخواني بالقسم"، واصفا حال الأسرى عندما ودعوا إخوانهم المحررين بالرجال.

طي صفحة الانقسام

خرج كريس ورفاقه تاركين إخوانهم الاسرى والدمعة في عيونهم رغم أن شمس الحرية تبسمت لهم اخيرا بعدما قضوا سني عمرهم بعيدا عن ذويهم، يقول ضيفنا المحرر: جنود "الناحشون" الذين رافقونا لتسليمنا للجانب المصري طيلة الطريق كانوا يستفزوننا لدرجة ان احدهم قال لي "واحد منا بيسوى الف منكم" فرددت عليه واحد منكم اخنع دولتكم لنا، ولولا التوصيات بعدم التعرض لأي محرر لانهال علي الجندي بالضرب لاسيما بعدما قهرته بضحكتي".

ورغم الالم الذي كان بداخل البندك لعدم رؤيته أحدا من أهله لاستقباله كباقي المحررين إلا أن تلك الغصة زالت حينما وطأت قدمه مدينة غزة ورأى صديقه المحرر قبل سنوات حازم بارود وقتها احتضنه ونسي ألمه, وفق قوله.

لم يتوقع كريس رؤية الجماهير الغفيرة لاستقبالهم بغزة فقد غمرته السعادة وشعر أنه وسط اهله, ويقول وهو يستذكر مشاهد لازالت حاضرة بذهنه: ذوو المحررين كانوا يحتضوننا بلهفة وشوق فكل الامهات والاباء كانوا يرحبون بنا كما لو كنا ابناءهم، متابعا: لمست بأهل غزة تقديرهم للأسير وتضحياته.

وعن مشاريع ضيفنا المستقبلية ذكر أنه سيكمل دراسته الجامعية ويواصل عمله بالاتجاه السياسي من اجل الاسرى، محملا القيادات والفصائل كافة الأمانة باعتبار صفقة "الوفاء للأحرار" تجسيدا للوحدة الوطنية وطي الصفحة السوداء من الانقسام.

أما عن فكرة ارتباطه بفتاة وتكوين عائلة قال مازحا "هل من المعقول أن أخرج من مؤبد وأذهب لمؤبد آخر.

لم تنته حكاية البندك, رغم التضحيات التي قدمها من اعتقال وفقدان للاحبة، فسلسلة الدفاع عن الوطن بدأت عندما شاهد شمس الحرية تبعث بخيوطها الذهبية من جديد.

اخبار ذات صلة