قائد الطوفان قائد الطوفان

صمود كراجة.. زهرة الدار

رشا فرحات

زهرة البيت هي، أخت رجال، كما يقولون، بطلة قرية صفا الضفاوية الوحيدة، صمود، اسم على مسمى، الزهرة الوحيدة لخمسة أخوة، ينتظرونها هناك على قارعة الطريق المؤدي إلى الفرح، مع عيون أخرى تحدق، تنتظر، حيث لا مكان هناك لوصف الأشواق، شيء يحفر في الصدر، فتلفت حوله صنوف أخرى من الفرحات، وجع ،نبض، وفرح، مشاعر تختلط، ما أصعب أن توصف الأشواق، والأشواق في هذه اللحظة لا توصف، لزهرة تحمل عشرين ربيعاً مزهراً، وأحلام كثيرة، تصمد مع صمود اسمها، هل ستعود صمود لتزهر في حديقة الدار مرة أخرى.

تنظر إلى كاميرات التصوير، بعيون دامعة، تتلفت يميناً ويساراً، تبحث عن قلب أم ثابتة كشجرة زيتون معمرة، لا تهزها الرياح، وذكريات والدها الأسير القديم تدور في بالها منذ أعلنت صمود إضرابها عن الطعام، فكانت درساً قاسياً يدفعها منذ طفولتها للانتقام، أستاذها الذي تعلمت منه كيف تنتزع حقها، ونبعاً تدفقت منه كل حقوقها الضائعة، فحفظتها عن ظهر قلب، وباتت وجعاً يؤرق ليالي طفولتها المسلوبة على يد محتل غادر، وحقاً ينتظرها هناك، في بقعة معتمة في غياهب الذاكرة، فيزيد من إصرارها على استرجاعه.

تعود صمود الآن في صفقة لم تكن على خاطرها، وشك في اللحظات الأخيرة، بسقوط اسمها من قائمة المحررين، لكنها حقيقة الآن وليست خيالاً، إلى بيتها تعود الآن، إلى حجرتها، تقلب كتبها المنتظرة فوق الطاولة، تحتضنها ببطن أجوف لم يتذوق زاداً، منذ عشرين يوم خلت، علمته الزنزانة كيف يختار الجوع سلاحاً حتى يموت أو ينتصر، لا شيء يعلو في هذه الحجرة فوق صوت الحق، فوق دموع زملاء المعتقل، فوق صور الفرح المتناثرة في الهواء، ونظرات فرحة ممزوجة بالنصر، تحتضن أخوة ضاق فيهم الصبر والانتظار، وأم ترفع يديها ليل نهار، فبتلك الدعوات خرجت، وبتلك الدعوات صمدت، وبتلك الدعوات خلقت فرحة في قريتها الصغيرة تلك، وابتسمت ابتسامتها، وتفتحت لتغرس في قلب الدار زهرة يانعة يفوح عطرها في أرجاء المكان المشتاق الباكي.

تعود إلى خاطرها ذكريات الزنزانة السوداء، وتلك الحشرات تتطاير هنا، وهناك، فتذكرها بلمسات أمها الحنون، وتضحك" كم كنت أخاف الحشرات يا أمي" ثم تتلمس رطوبة الجدران المطلية بصبرهن خلفها، والمبطنة بأوجاع التعذيب، وليالي البرد القارص، وثياب معلقة خلف باب غرفتها تنتظر بشوق، تبكي بحرقة، تتلهف عودة ذلك الجسد، وآثار السلاسل الحديدية تلتف حول كاحلها، لتحفر ذكرى ثباتها، فتخرج ابتسامة صبر رغم الوجع، لا هواتف هنا لتستمع لدعوات أمها كل صباح، ولا بوابة جامعة مفتوحة لتصطف على مدرجاتها كما كل الفتيات، يخلو ذلك المكان من كل مقومات الحياة، ويدها تمسك بجلبابها لتستر به ما يريدون خلعه عنها، بذريعة التفتيش، وتشد على رأسها خمارها الأزرق، وتصرخ بهم معلنة الرفض، وكدمات زرقاء تنتشر فوق ذلك الجسد البريء، فتذكرها بطعنة سكين ضربتها يدها قبل عامين، ليعلو بها صوت الحق، وتأخذ قرارها بالرحيل إلى غياهب سجن لا يرحم، حتى يأتي فرج الله، ولم يكن ذلك الفرج ببعيد.

البث المباشر