قائمة الموقع

تجليات صباحية

2011-11-17T09:51:12+02:00

رشا فرحات

اجلس على مكتبي، إنها ساعة مبكرة، اعتقد أنها السابعة، لا أعد الدقائق بالدقيقة، فهنا الكثير من الدقائق قد هدرت، ولا حساب للوقت، حيث في المدينة الميتة، لا يعتبر الأموات ولا يهتمون بحساب الوقت.

أفتح الشرفة، أغلق الستارة، فنجان من القهوة المرة قد وضع على طرف الطاولة، يتصاعد بخاره ليواجه أبخرة باردة تسللت عبر الستائر المغلقة، وأرسلت قشعريرة في الجسد المثقل بالبرد، صوت المعلمة في المدرسة المجاورة، يعد، واحد، اثنان ثلاثة، والأولاد يمارسون ألعابهم الرياضية بروتين العد ذاته الذي تردده المعلمة.

أتقدم خطوتين، افتح الستائر، والنوافذ، أنظر إلى ذلك الصوت، لا ادري لماذا بات يضايقني صوت المعلمة ، واحد ، اثنان ، ثلاثة، يمينًا، جانباً، لفوق، وأنا ابتسم وأهز رأسي، منذ فترة طويلة، أدمنت عادة هز الرأس، أهزها في اليوم أكثر من عشر مرات، وشرفتي تنقل لي، الكثير من القصص، أدونها، وأعاود الهز، وأسأل ماذا تفيد تلك التمارين الروتينية، من تلك المعلمة المكتظة شحماً توزعه بانتظام كل ليلة، في أنحاء جسدها الذي يمارس الآن خمس دقائق من التمرينات الروتينية الكاذبة.

وفي الزاوية على رصيف الوجع المقابل، يقف ذلك المصور الطويل، بكاميراته الرقمية الدقيقة، ويبدأ بتصوير بائع المكسرات الذي يفرد جسده بجانب عربة صدئة، ويغفو غفوته المعتادة بانتظار نهاية الدوام المدرسي، ليبدأ صرخات البيع والشراء.

أجلس على جهازي، اقلب الأخبار الصباحية، تتابع، مسرعة تتغير، تتطور، كثير من الصور، كثير من الأخبار، أشم رائحة الدماء، ثم أرى صور الرقاب المتقطعة هناك، في مكان ما، حيث تختلط الأماكن، وأشتم روائح اللحم الآدمي المطهي بعناية فائقة، حيث بدأ البعض بطبخ لحوم البشر بعد ذبحها، هو الجوع، مقابل الذل، معادلة دقيقة، كثير من الجوع، كثير من المال، كثير من الذل، من قال أن جميع الأغنياء ينامون وبطونهم مليئة بالطعام، هناك الكثير من الغصات في وجبة من لحوم البشر.

أعود إلى الشرفة، طفل عارٍ يقفز في بقعة ماء خلفتها أمطار الأمس، وعاصفة معتمة مرت خلسة من هنا، غريبة كل العواصف، تمر خلسة دوماً في الليل، والناس نيام، وتغادر قبل أن تثلج الفرحة صدورنا، ويغسل المطر قتامة يوم طويل أسود، فنصحو وقد علت الشمس، ورحلت زخات المطر.

يقطع حبل أفكاري المختلطة حينما يركض الطفل وراء طائرة ورقية يجرها طفل آخر يحمل على ظهره حقيبته المدرسية، يركضان، ثم يتشاجران، حينما يستولي ذلك على طائرة الأخر.

أضحك، اردد " عيني عينك"  هي ثقافة الاستيلاء على الحقوق، غدت سائدة، حيث تفقر كل الأشياء حولنا، فيغدو الفقر عذراً للرذيلة.  الشارع فقير، لم يظهر عليه أي معالم للحياة، مهما حاولت البلدية تبليط أرصفته، أو كنسها من أوراق الخريف، لم يغادر الخريف منذ سنوات، وأصبحت كل الفصول خريفاً، فامتلأت الشوارع بالأوراق الصفراء، واتسخت، ثم التصقت بها كل علامات الفقر.

وأنا أنظر متسمراً من الشرفة، على كل تلك الأشياء الاعتيادية التي لم استطع اعتيادها، أوراق تتناثر على أرصفة الشارع، وبيوت لم يكتمل بنيانها، وأطفال يركضون وراء طائرة ورقية ممزقة لن تطير، وبركة ماء، كان يقف بها ذلك الطفل قبل لحظات، وأنا انسحبت من تلك الشرفة الباردة.

اخبار ذات صلة
من تجليات سيف القدس
2021-06-01T11:33:00+03:00