مؤمن بسيسو
لو تُرك الفلسطينيون لحالهم وخياراتهم وإرادتهم الحرة لما عانَوْا مرارة استمرار الانقسام حتى اليوم، ولما تلجلج لهم خيار أو تردد لهم موقف.
هي -إذنْ- التدخلات والضغوط والتهديدات (الإسرائيلية) والأميركية الحاقدة الخبيثة، والتي تفعل فعلها وتترك أثرها وتنحت سوءها في أخاديد السياسة والقرار الفلسطيني، ولو لم يكن لها سطوة أو نفاذ لما بلغنا معشار ما بلغناه من تراجع وارتكاس على مختلف الأصعدة والمجالات.
لا يعني هذا –بحال ما- نفي المسؤولية الفلسطينية الداخلية عن مآلات الحال والمسار، فهناك –بلا أدنى شك- قوى شدّ داخلي عاتية ومراكز قوى لا يستهان بها لا تريد للانقسام أن يُطوى وللوطن أن يتوحد، ولكن الضغوط والتهديدات الخارجية تتصدر الموقف وتشكل العنصر الأول الرامي إلى تخريب أي بادرة نحو إنجاح المصالحة وإفشال التوافق الفلسطيني الداخلي.
نعترف أن الآمال والتوقعات المتوخاة من وراء لقاء (مشعل-عباس) كانت أكبر من النتائج المتحققة، ولكن ما جرى يشكل أرضية خصبة وقاعدة انطلاق أساسية لإنجاز المصالحة بصورتها النهائية فيما لو تم احترام ما أُعلن عنه من تفاهمات وقرارات.
اليوم، نحن على مفترق طرق خطير، والأيام والأسابيع القادمة تمثل محك الاختبار العملي لإعلانات التوافق التي شهدتها القاهرة التي احتضنت لقاء مشعل وعباس، فإما أن نلج بثبات إلى مرحلة جديدة من العمل الوطني المشترك على ضوء إرادة الشراكة والوفاق، أو أن نستمر في إدارة الانقسام البغيض حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
المؤشرات والمعطيات العامة تعطي حكما إيجابيا للوهلة الأولى، وتمنح الفرقاء فرصة إضافية لإحالة النصوص العامة والقرارات المجملة الفضفاضة إلى ترجمات واضحة وتطبيقات دقيقة على أرض الواقع، وهنا مربط الفرس وبيت القصيد.
ما تم الإعلان عن إنجازه على صعيد ملف المنظمة والانتخابات والمعتقلين السياسيين والتوجه الصادق نحو الشراكة الكاملة بالغ الأهمية، لكن ذلك يبقى رهين استمرار الإرادة الحرة والتطبيق العملي خلال الأيام القادمة.
الخطوة الأولى نحو إثبات جدية التوافق الأخير تكمن في إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وحتى اللحظة يبدو الملف متعثرا بحكم استمرار الاعتقال السياسي اليومي في الضفة الغربية، ولا تتوفر مؤشرات جديدة حول إمكانية طيّه خلال الأيام القادمة.
لا نريد استباق الأحداث، فكل شيء قابل للحل والإصلاح، وقد تحمل الأيام والأسابيع القادمة مبشرات الإنفاذ العملي لآليات المصالحة الاجتماعية والنزوع إلى إطلاق الحريات المنتهكة التي يتصدرها الإفراج عن المعتقلين السياسيين.
ما جرى أطلق –بحق- كوامن الشراكة من عقالها الفصائلي، ولكن إرجاء ملف الحكومة من شأنه أن يبقي الشراكة في إطار جزئي غير مكتمل، وأن يبتعد بالمصالحة عن آثارها الملموسة التي يشعر بها كل مواطن فلسطيني.
هناك اعتبارات –لا ريب- خلف اقتراح إبقاء الحكومتين، فـ"أبو مازن" يرغب في الالتفاف على الضغوط والتهديدات (الإسرائيلية) والأميركية، ويحاول الفرار من مصير "أبو عمار" حال إتمامه للمصالحة مع حماس فيما ترغب حماس في الاحتفاظ بمكتسباتها التي تحققت لها في غزة طوال الأعوام الأخيرة دون أي تغيير.
من المهم بمكان إيجاد صيغة وطنية لحلّ معضلة ملف الحكومة المستعصي، لأن إرجاءه لن يسهم في إقناع المواطن الفلسطيني بجدوى المصالحة من الزاوية المبدئية فضلا عن أن القفز عن المشكلات المترتبة على بقاء الانقسام عمليا، والتهديدات (الإسرائيلية) لغزة تحت غطاء استمرار حكومة حماس من شأنه أن يُفرغ المصالحة من جزء مهم من مضامينها الحقيقية.
نحتاج إلى مزيد وقت لاختبار جدية إعلان المصالحة الأخير، وكلنا أمل في الخروج من شرنقة المصلحة الفصائلية إلى فضاء المصلحة الوطنية العليا، فالتأجيل المتكرر والتردد في حسم الملفات الأساسية لا يفيد مطلقا بقدر ما يكرس التعقيد ويستجلب المعاناة ويباعد الناس عن التفاعل مع القضايا والهموم الوطنية.