المحافظة الوسطى-محمد بلّور-الرسالة نت
لحظات صادمة مرت على مرأى ومسمع الأسير المحرر جميل إسماعيل الباز قبل عشرين سنة حين كان جنود الاحتلال يوزعون الموت على الأطفال بالجملة.
بخّوا رذاذهم السام والحار في الطرقات وتبادلوا النكات وهم يسددوا الرصاص نحو الرؤوس و الأرجل أو حسب خبرة المصوّب على الزناد.
في منزل المحرر جميل الباز "أبو وسام" 53 سنة يحتفي أبناؤه بكل من جاء لزيارته فيسرّهم جدا أن يقفوا لاستقبال ضيوف الأب العائد بعد عشرين سنة !.
تفاعل الغضب بكافة عناصره الحيوية في صدر الباز في منتصف الثمانينات حيث كان ضباط المخابرات وجنود الاحتلال يذلون الناس في الشوارع وعندما انطلقت انتفاضة الحجارة شق رصاصهم طريقه نحو صدور الأبرياء
يتحدث الباز لـ"الرسالة نت" عن الفترة التي سبقت اعتقاله فيضيف: "بعد سنة 1985 صارت من قبل الاحتلال استفزازات في الشوارع فكانوا يذلون الشباب ويعرونهم على الحواجز والطرقات ويجبرونهم للرقص في الشوارع مستهزئين بهم ! فتضايقت وفكرت بعمل شيء لكني لم استطع الحصول على سلاح".
تعرض منزله للهدم مرتين بحجة قربه من شارع صلاح الدين ما أشعل في صدره الرغبة في الانتقام لشعبه المحتل وشهدائه.
العملية
دمر العدوان المتصاعد في غزة طبقات الزمن في عيني جميل فقرر الانتقام وتنفيذ عملية يصدم فيها سيارته بجنود "إسرائيليين" ويقتلهم.
كانت المخابرات "الإسرائيلية" تمارس القهر والإذلال في شوارع قطاع غزة لمحاولة تدجيين الشعب الفلسطيني بالقوة وإرغامه على الخضوع.
حاول تنفيذ العملية على طريق المنطار شرق غزة أكثر من 3 مرات لكنه لم يوفق وهنا فكر في تنفيذها داخل فلسطين المحتلة.
كان هدفه فقط الجنود العسكريين معللا بالقول: "تعمّدت أن يكونوا جنود فالأذى كان منهم وكثيرا ما سمعتهم قرب منزلي يتراهنوا فيقول أحدهم سأطلق النار وأنزل أرجل هذا الفتى الذي يرجم الحجارة وكنت أسمعهم وهم مستهزئين فقلت لابد أنيدفعوا الثمن !".
طاف بعربته داخل مدن فلسطين المحتلة بحثا عن تجمع للجنود فلم يحالفه الحظ وفي إحدى جولاته رأى أحدهم ففكر أن يكون ضابطا كبيرا يخطفه فاتجه نحوه فوجده أقل من ذلك فدار حوله ثم تركه وقد كان ذلك الجندي أحد الشهود ضده فيما بعد.
وصل عملية البحث عن صيد فسلك الطريق السريع قرب بلدة حمامة المحتلة في منطقة بين أسدود وعسقلان تسمى "نسانيت" فرأى 5 جنود مظليين يرتدون بزاتهم العسكرية ويحملون بنادقهم ويحاولون اجتياز الطريق فهاجمهم بسيارته وأوقع اثنين بينما ارتمى الثلاثة نحو الحاجز الإسمنتي.
تأكد جميل أن أحد الجنود سقط صريعا بينما أصاب الآخر بشكل محكم وقد أصيب لاحقا بشلل كامل فانطلق هاربا بسيارته "مرسيدس 7 راكب" وهنا شرع الجنود الثلاثة الناجيين بإطلاق النار على إطارات السيارة فتوقفت بعد 400 متر.
في هذه اللحظة كان أحد السائقين من مدينة رفح يراقب ما جرى ففزع من المشهد وهرب تاركا مركبته حيث قفز جميل بداخلها بعد أن تخلص من عربته المعطوبة وهرب وعلى بعد 20 كيلو متر أخفاها داخل أحد البيارات وبدأ رحلة جديدة.
نحو القدس
حين تدرك أهمية الوقت تسعى لتكون سيده لا أسيرا له ! وهذا ما حدث مع جميل الباز فقد تأكد أن الوقت يداهمه وقرر استغلال كل دقيقة لينال من الاحتلال.
دارت في رأسه أفكار متزاحمة ثم قرر التوجه للقدس المحتلة وتنفيذ عملية ثانية هناك مستغلاً مقص كبير أخفاه تحت قميصه.
أسعفته لغته العبرية الجيدة على التوجه لأحد مكاتب السيارات وأخذ مركبة تقله إلى القدس بطريقة طبيعية متحججا بشراء سيارة ثم اتفق على ثمن الرحلة 80 شيكل.
اختار جميل سائق "إسرائيلي" شاب ليكون هدفه الثاني وفي الطريق حاول 4 مرات طعنه لكن الطريق لم يخل من مربكات أخرى أزعجته فقرر تركه.
نزل من السيارة واشترى للسائق زجاجة مشروب غازي ثم ناوله 80 شيكل ومضى وقد كان السائق أيضا احد الشهود الذين أبدوا استغرابه من الباز في المحكمة !.
حدود فلسطين
بدأ الوقت يعمل في غير صالحه فترك مدينة القدس وتوجه إلى أريحا ومنها إلى منطقة العوجا وقد كانت تنقلاته تلك مشيا على الأقدام في شهر تموز.
عن ذلك يضيف: "كنت أمشي في الليل والنهار لمدة يومين وأمضيت أول يوم في بيارة ليمون في أريحا والثاني أمضيته في مزرعة موز ضخمة مكثت فيها حتى العاشرة ليلا".
واصل رحلته مشيا على الأقدام طامعا في الوصول للحدود مع الأردن أو لبنان وعندما رأى الحدود الأردنية على مرأى العين حثا الخطا فولج في منطقة حدودية لا تبعد سوى 200 متر عن خط الحدود مكسوة برمال ناعمة.
ويضيف :"مشيت بجوار أحد المستوطنات داخل أحد الوديان حتى وصلت الحدود واتجهت نحو الشمال قرب لبنان فاقتربت وكانت الرمال على بعد 200 متر ولما أصبحت على مسافة 50 متر من الحدود رأيت إنارة شديدة حولي وقد طوّقه الجنود وألقوا القبض عليه وذلك يوم 20 تموز 1991م .
رحلة التحقيق
طوال 42 يوماً عاش في حجرة التحقيق في عسقلان وقد كانت أساليب المحققين غاية في القسوة على الصعيد الجسدي والنفسي .
ويضيف :"أصعب شيء كان لما يضع كيس بلاستيكي على رأسك ثم يقوم بضمه ويمسكك من رأسك ويضربك في الجدار ثم يأتيك أحدهم فجأة من خلفك ويضربك دون أن تنتبه له".
نقل الاحتلال الأسير الباز إلى عزل الرملة "نتسان" وهو أسوأ عزل في سجون "إسرائيل" وهناك عاش 21 شهر عزلاً انفرادياً برفقة 35 أسير من حماس على رأسهم الشهيد صلاح شحادة ويحيى السنوار وحسن المقادمة وأبو النمر الشراتحة وآخرين.
كان عزل الرملة قذر للغاية فهو يقع تحت الأرض بمسافة 190سم ما اضطر الوفد الفلسطيني المفاوض في مدريد مطالبة الاحتلال بإغلاقه خاصة بعد استشهاد بعض الأسرى فيه.
قاعة المحكمة
لازال المحرر الباز يذكر جيدا ما وقع في قاعة المحكمة يوم النطق بالحكم فقد سأله وكيل النيابة لماذا نفذت عمليتك ضد الجنود فأجاب :"أنتم تأتون بالجنود من كل البلاد لغزة والضفة لقتل الفلسطينيين ! وكل واحد يحمل سلاح يستحق الذبح-يشير لرقبته-فثارت المحكمة".
وأصدر الاحتلال حكما مؤبدا مضافا له 15 سنة على الباز بتهمة قتل جندي وإصابة الآخر.
حاول أهالي الجنود مهاجمته داخل القفص وشرع بعضهم في ضربه فهرب أسفل المقاعد المعدنية ما زاد من ثورة الحضور ثم اقتاده الجنود عبر سرداب لعربة السجن.
تنقل بعد ذلك ما بين عسقلان ونفحة وبئر السبع ثم أمضى 17 سنة في سجن نفحة مع قدامى الأسرى.
حين يتحدث أبو وسام عن زوجته يبدي لها كثيرا من الاحترام فقد ربت له 7 أبناء و5 بنات وزوجتهم فيما وقف إخوته ووالده جوارها نيابة عن الأب الأسير.
حياة الأسير
عاش 20 سنة تأقلم فيها مع نمط الحياة الجديد فاستغل سنواتها الأولى خاصة في تطوير نفسه ثقافيا ودينيا في الفقه الإسلامي وقد شارك في تمثيل الأسرى في عدة مواقع.
مرت عليه أجواء متباينة خلال عمليات أسر الجنود "الإسرائيليين" وتبادل الأسرى سنة 2000 وما تلاها وصولا إلى صفقة وفاء الأحرار حيث ازداد الأمل بنيل الحرية.
عن ذلك يضيف: "بعد فشل إضراب 2004 مرت فترة عصيبة جدا وكنت طالبا في الجامعة العبرية ولم أكمل بسبب العقاب المتعمد ثم درست دبلوم تأهيل دعاة في الكلية التابعة للجامعة الإسلامية وحفظت بعض القرآن وتعلمت التجويد حتى نلنا الحرية".
في طريق عودته لغزة تفاجأ بحجم التطور والعمران الذي وصلت إليه وقد ظن أن العدوان على غزة دمرها عن آخرها
تلمّس فرحة حقيقية في وجوه الأطفال والمواطنين الذين اصطفوا على الجانبين لمصافحة الأسرى والترحيب بهم في أجواء احتفالية فاقت الفرحة بصفقة 1985 –كما قال.
ومما زاد من سعادته أحفاده الذين بلغ عددهم 39 حفيدا حيث اشتاقوا وإياه لكلمة "جدي" بعد أن كانت محرّمة عليهم خلف قضبان الاحتلال.
تتبدل ملامحه حين يأتي الحديث عمن تركهم خلف القضبان مشددا على أهمية الوصول لطريقة تحررهم من الأسر بأي ثمن.
وبدأ المحرر جميل الباز رحلة جديدة مع الحياة يمضي فيها وقته بين أبنائه وأصدقائه يلتقي بهم ويتعرف على وجوه اشتاق إليها بعد 20 سنة من الغياب القسري .