الرسالة نت - أمل حبيب
تخيلت أن بكاءها المتواصل سيرجع الروح في جسدي والديها من جديد.. صرخت بأعلى صوتها: "ماما عبود عطشان .. بابا أنا جعانة"، ولكن لم تشفع دمعاتها هذه المرة عند والديها بعدما التفت الساق بالساق.
تذكرت أن لعبة التمثيل بالموت عندما تغضب منها أمها تنتهي دوما بضحكات وحضن دافئ من والديها وهما يقولان: "كنا بنمزح.. اسمعي كلامنا عشان ما نموت".
انطلقت سلوى ابنة التاسعة وشقيقها عبد الحميد نحو مدخل البيت كأنهما ينتظران من يستيقظ ويسألهما عن سبب دموعها، وكانت تردد: "ماما وبابا.. عيونهم مفتحة بس ما بردوا علينا".
وبعد أن وصلت جدتهما للغرفة علمت أنهما جثتان هامدتان وجبت عليهما الرحمة.
حياة الطفلين سلوى وعبد الحميد أصبحت لا لون لها ولا رائحة كما غاز أول أكسيد الكربون الذي استنشقه الأبوان محمد الحداد وزوجه تحرير, وكان ناتجا عن اشتعال الفحم أثناء نومهما في منزلهما بحي النمساوي في خان يونس.
شعور الضياع
في بيت عزاء الفقيدين بدأنا بالبحث عن ملامح الشقيقين المحرومة.. سلوى كانت كالعصفور ذي الجناح المكسور بعدما فقدت مصدر السند والرعاية, فلم ينطق لسانها بأي كلمة، ووجهها الشاحب ينم عن فاجعتها مما رأت عيناها, ودموعها التي لا تتوقف جعلتنا نعذرها عن الإجابة عن أي سؤال، وحتى عن اسمها الذي كان والداها يدللانها به فيقولان لها: "سوسو"
أما الموت بالنسبة للطفل عبد الحميد فكان عالما مليئا بالاستفسارات، وما زالت التساؤلات تجتاح عقله الصغير: لماذا يبكي الجميع؟.. لماذا لم يرد والداي على بكاء أختي رغم أن عيونهما مفتوحة؟.
ولصغر سن عبد الحميد الذي لا يتعدى الأعوام السبع كان يراقب وجوه الجميع من حوله وهو يحاول أن يفهم مشاهد الحزن والبكاء المرسومة على وجوه المعزين, فلم تعتقد طفولته للحظة أنه سيفقد الأم والأب وسيحمل لقب "يتيم".
قدمنا العزاء لوالد الفقيد محمد وقد كان ممددا على فراش المرض في غرفته وبمجرد أن قلنا له: "عظم الله أجركم يا حج" كانت دموعه المنسابة على وجنتيه هي الإجابة الكافية.
والدا الفقيد أصيبا بحالة صدمة وذهول بعد سماع خبر وفاة ابنهما البكر وزوجه، وعيون الحاج الستيني أبو محمد ظلت معلقة بابنه المدلل وهو على فراش الموت، وكان يردد: "الله يرحمك يابا.. حبيبي يابا".
شقيق الفقيد أحمد الحداد أخبرنا أن والده يعاني من سيولة في الدم وتيبس بالمفاصل، وقال: "والدي لم يتحمل خبر وفاة شقيقي وخصوصا أنه الابن المدلل عنده", صمت قليلا بعد أن لمعت في عيونه دمعة الألم على فراق شقيقه الكبير, وتابع: "ما كان النا رأي ومحمد موجود".
محمد الذي أنهى دراسته الجامعية عام 2000 شغل منصب مدرس للتربية الفنية، ولديه درجة عالية من الثقافة كما قال أهله.
كان المرحوم محمد وزوجه على موعد مع الشهادة بعد أن أشعل النار في غرفته طلبا للتدفئة لسبب انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة في منطقة النمساوي, ولم يكن يعلم الوالدان أن تقبيلهما الأخير لفلذات أكبادهما كان الأخير حقا, فلم تشرق عليهما شمس يوم الخميس الماضي.. لأنها كانت نومة الموت.
وكان مدير الاستقبال والطوارئ بمستشفى ناصر الطبي د. أيمن الفرا قد أرجع سبب وفاة الزوجين محمد الحداد -35 عاما– وتحرير -28 عاما- إلى استنشاقهما لغاز أول أكسيد الكربون السام الناتج عن اشتعال الفحم، موضحا أن استخدام الفحم في الغرف المغلقة خطير جدا، "لأن اشتعاله يؤدي لامتصاص الأكسجين، وخروج مواد سامة تؤدي لوفاة الإنسان دون شعوره".
وما إن سألنا عن وضع الكهرباء بالمنطقة حتى استشاط سؤالنا غضب أبي علاء -شقيق المرحوم- قائلا: "حرام عليهم ولا حدا سائل فينا.. في النمساوي ما في جدول منتظم للكهرباء.. الناس غصبا عنها بدها تولع نار بالبيوت من موجة الصقيع".
التمسنا العذر لأبي علاء وصراخه وغضبه في وجهنا؛ فأن تفقد من تحب في غمضة عين ليس بالأمر الهين, وبعد أن هدأ إخوته روعه أضاف: "محمد الله يرحمه كان متعود يطفي النار قبل ما ينام، ولكن قدر الله وما شاء فعل".
أبو علاء احتضن أبناء شقيقه وقال: "يلا يا سوسو ناكل .. بابا وماما راح يزعلوا إذا ما أكلتي".. سلوى التي جلست على مائدة الطعام كأنها تنتظر والدتها أن تحضر لها المعلقة وبعد طول انتظار أيقنت اليتيمة أن أمها لن تأتي، فأجهشت بالبكاء.
واليوم تشعر سلوى بالضياع، وأصبح صوت أمها حلما بالنسبة لها بعدما كان يزعجها في بعض الأحيان وخصوصا عند مساعدتها أو منعها من تلويث ملابسها, أما الطفل "عبود" الذي رافق والديه حتى بعد مواراة الثرى لم يعلم أنه سيأتي بعد عدة سنوات ليزورهما ويقرأ الفاتحة على قبريهما.
وخلال استعدادنا لمغادرة خيمة العزاء ودعتنا أحاديث المعزين التي تضرب المثل في حياة الزوجين وخصوصا احترامهما لبعضهما وحبهما الخالص, فقد عاشا في الدنيا سويا, ورحلا منها سويا.
احترقت بقايا جذوة الحطب كما قلوب الطفلين المشتعلة حزنا على فراق الوالدين، ولم يهنأ أي منهما (بالطشة) التي وعد والداهما إياها بعد ظهور نتائج الامتحانات, فسافرا إلى الدار الآخرة تاركين قطعة من أرواحهما في أمانة المولى عز وجل.