رام الله - وكالات
حُلق شعرها وازرقّ جسدها، فماذا كان من الصغيرة أن تفعل وهي أسيرة جدران الحمام؟ براءة حسن ملحم ابنة الـ21 ربيعا.. لا حكايات ترويها ولا أصدقاء ولا عنوان لمدرسة تعرفها، لا تملك ألوانا ودفاتر.. اشتاقت للشمس فلم تتحمل أشعتها عندما احتضنتها، وأي قصص ترويها طفلة توقف عمرها عند سن الحادية عشرة؟
بدأت فصول معاناة براءة حين انفصل والداها، فرافق أخوها أمه، وبقيت هي مع والدها في قرية النبي إلياس القريبة من مدينة قلقيلية، ولاعتقاد والدها أن هناك أناسا سيئين، قرر حبسها ومنعها من الذهاب للمدرسة، فكان بذلك أكثر قسوة من هؤلاء «السيئين المجهولين». هربت براءة كردة فعل على منعها من الذهاب للمدرسة، لكن الشرطة أعادتها مجددا لبيت والدها الذي أرغمها على توقيع كتاب أنها ترغب بالعودة له وعدم الذهاب للمدرسة. لم تكن تعرف براءة «الطفلة» أنها ستبقى أسيرة في حمّام المنزل عشر سنوات متتالية، إلا أن قلق عمتها المتواصل دفعها لتجاوز خوفها بعد رفض والدها الذي يحمل جنسية إسرائيلية السماح لها برؤيتها فقررت الاستنجاد بالشرطة وببلدية قلقيلية.
يوم الخميس الماضي وُلدت براءة من جديد، خرجت من الحمام بعد أن دخلت الشرطة المنزل وطلبت من والدها فتح الحمام.
وصفت براءة سجنها بـ«غوانتنامو». نعم هي تعرف من خلال متنفسها الوحيد، حيث وضع لها والدها في الحمام بعد أن أغلق نافذته بقطعة من الخشب، جهاز راديو.
أول طلب لبراءة عندما جلست مع المرشدة في الشؤون الاجتماعية بقلقيلية كان حبة «ملبس».. أرادت بها تغيير طعم مرارة الحبس.
يروي مدير الشؤون الاجتماعية في محافظة قلقيلية عزت ملوح، تفاصيل الحادثة بعد أن وردت معلومة لشرطة قلقيلية باحتجاز أب لابنته في الحمام، وبدورها تواصلت الشرطة مع الشؤون الاجتماعية، وبالشراكة مع محافظ قلقيلية والنيابة العامة، تم استصدار قرار بدخول المنزل، وتم ذلك.
وقال ملوح: الأب كان موجودا أيضا، ولدى دخولنا فوجئنا أنه كان قد أحكم إغلاق الحمام بقفل من الخارج، وقاومنا ورفض التعاون معنا لفتح الحمام.
وأضاف: المفاجأة كانت بعد أن تم فتح الباب، بدا المشهد مروعا.. فتاة بوضع مخيف لا تملك إلا غطاء واحدا، مثّل لها فرشة وغطاء في نفس الوقت.. كانت ترتدي ملابس رثة، وبالقرب منها وعاء للغسيل.. تعيش في مساحة صغيرة جدا، تأكل خبزا وزيتا وتفاحة، كثيرا ما كان والدها يعاقبها بحرمانها منها، مع سلسلة من العقوبات الأخرى.
وفيما كانت تعاقب بالضرب عند أي طلب، فالغريب أن الطلب الوحيد الذي لم يرفضه والدها أبدا كان استبدال بطاريات الراديو كلما نفدت واستهلكت، بحسب ملوح.
براءة اليوم في حضن والدتها المصدومة، استطعنا الحديث معها رغم أنها ما زالت مشوشة، فأكدت أن والدها وزوجته كانا يجبرانها على القيام بكافة أعمال المنزل، وأوهمها أنه وضع كاميرات مراقبة في كل مكان، الأمر الذي صدقته وتعاملت على أساسه.. شكل الحمام كل حياتها. كانت تأكل خبزها، وتغسل الملابس وتستمع للراديو.
وقالت براءة : «لم يكن لدي سوى «جاكيت» وبنطلون ومنديل وغطاء كلها مهترئة، وراديو يعمل على البطاريات. لا أعرف ما هو العيد، ولا حتى الدجاج.. أنا خجلانة منك بس مبارح سألت أمي على الغداء: هو الدجاج هيك شكله؟.
ووصفت براءة خوفها من والدها الذي منع إخوتها من الحديث معها أو حتى الاقتراب من الحمام، حيث كان يجبرهم على الاستحمام في غرفهم، حتى لا يفتح باب الحمام ويراها إخوتها.
براءة ورغم الكم الهائل من التعذيب والقهر والعتمة، استطاعت الضحك، فهي تشعر أنها اليوم «دلوعة» البيت وتريد تعويض كل ما مضى.
وقالت براءة إنها ستبقى وفية للبرامج التي كانت تستمع إليها من خلال الراديو «الصحة المستدامة»، و«حياة وناس»، و«دفاتر القمر» وترغب في دراسة علم النفس لتقول لوالدها إن «ابنتك التي أسرتها هي من ستعالجك من أسر مرضك».
ميسون والدة براءة، قالت إن الوالد مصاب بـ«الوسواس» فهو يشك بكل شيء حتى أطفاله من زوجته الثانية، كان يحبسهم بالبيت.
وأضافت : «منه لله» لم أكن أعرف شيئا عن ابنتي، حاولت مرارا التواصل معها ولم أنجح طوال الفترة الماضية برؤيتها سوى مرتين، وكانت تنظر إليّ نظرات غريبة، بدا شكلها غريبا وخائفة من العقاب في حال تحدثت معي أو أخبرتني بما كان يحدث.
المرشدة الاجتماعية في الشؤون الاجتماعية بقلقيلية هالة شريم، كانت أول من تحدث للفتاة، وصفتها بصاحبة الإرادة القوية، وكانت أولى كلماتها «أنتم نور أخرجني من عتمة الظلم والظلام».
وصفت شريم حالة براءة بالمرعبة، إذ بدت كالإنسان الأول، ملابسها قديمة ومهترئة، وينتابها الخوف والارتباك، لا تثق بأحد، تريد الحديث مع أمها فقط، التي لم تكن تعرف عنها شيئا، حاولنا إقناعها أننا هنا لمساعدتها والوقوف معها، وبعد أن هدأت أخبرتنا كيف عذبها والدها، «كان يضربني بسلك كهربائي، ويحلق شعري وحواجبي، ويصب علي ماء باردا في عز البرد».
وتابعت شريم: طوال عشر سنوات لم تتحدث براءة، كانت تستمع فقط، شكّل الراديو كل العالم بالنسبة لها، استطاعت من خلاله تعلم القليل من اللغة الإنجليزية، فرحت بخروجها ووصفته بأنه كخروج الأسرى.
وأكدت شريم أن براءة بحاجة اليوم إلى متابعة مكثفة ومستمرة ورعاية نفسية وصحية وتوعية لكي تتمكن من العودة إلى الحياة والتكيف معها، ولا أحد يملك حق مصادرة حقها الطبيعي في الحياة التي سلبها إياها والدها.
والد براءة وزوجته الآن في أحد السجون الإسرائيلية، أما أبناؤه فيخضعون لعلاج نفسي داخل إسرائيل.
نقلا عن الحياة الجديدة