غزة -مها شهوان
رغم إعاقتهم تمكنوا من الحصول على لقمة عيش تسد رمقهم بدلا من مد أياديهم للغير مرضى متلازمة داون "منغوليين" يعملون في الخيزران أو المشغولات اليدوية أو كعمال نظافة في مستشفيات القطاع.
وتبنت مشروع تشغيل المصابين بمرض متلازمة داون، جمعية الحق في الحياة التي تأهلوا فيها من منطلق دمجهم بالمجتمع ليكونوا عنصرا فعالا فيه.
داخل أروقة مستشفى الوفاء للتأهيل الطبي يعمل عدد من مصابي متلازمة داون بأعمال النظافة كالشاب الثلاثيني ايمن عماد الذي يعد نفسه "المعلم" فهو طيلة الوقت ينهك نفسه بالعمل ليثبت لمن حوله أنه يعمل كالأصحاء.
راقبته "الرسالة" حينما وقف بباب إحدى الغرف ممسكا بمكنسته متجها إلى مريض يئن من شدة الوجع متقلبا على سريره، وأخذ يردد "الآه" وتدمع عيناه محاولا إظهار تعاطفه مع المريض، لأنه يتذكر والدته المريضة في البيت، كما يقول "للرسالة".
بعد محاولات عدة لإقناعه بأسلوب يتناسب مع عقليته ليتحدث عن عمله يقول: "مبسوط كثير بالشغل.. بعمل كل شيء، بس بالبيت زوجتي بتشتغل لاني رجال البيت "، ضحك العمال الأصحاء من حوله، الأمر الذي لم يرق له وبات يرمقهم بنظرات غضب.
التطريز وأعمال النظافة
يتابع أيمن عماد حديثه ممسكا بجهاز لاسلكي معطل :" أنا المعلم بالمستشفى بعطي الأوامر للعمال لأنه الشغل متعب"، لحظات صمت خيمت على المكان حتى رفع الجهاز وبات يردد :"أنا عماد أجب أجب " ، ومن ثم فسر ما فعله أنه يريد الاطمئنان على سير العمل في الطابق العلوي.
سألته الرسالة حول راتبه فسارع مجيبا :"حسبي الله ونعم الوكيل الفلوس ما بتكفيني أصرف على زوجتي وأمي وأختي".
ويتمنى أيمن أن يمن الله عليه بثلاث فتيات و ثلاث اولاد لأنه متزوج منذ خمس سنوات ولم ينجب بعد، حسب قوله.
وفي المستشفى ذاتها تعمل شهرزاد - 26 عاما- المصابة بمتلازمة داون داخل قسم المسنات في مساعدة العاملات في القسم، فتجدها تعمل كنحلة متنقلة من غرفة لأخرى وهي تسند المسنات وتطعمهن وكذلك تساعدهن في ارتداء ملابسهن.
تصف شهرزاد عملها بالقسم قائلة بكلماتها العفوية :" مرتاحة كثير بالمستشفى وبحب أجي كل يوم، عندما تتألم المسنات أبكي ولا استريح إلا لمن أهدئهن ".
وتقول العاملات في القسم أن شهرزاد حساسة جدا لدرجة أنها تبكي فور مشاهدتها لمسنة تبكي وتتألم ، بالإضافة إلى أنها لا تسبب المشكلات ويتعاملن معها كما لو كانت طبيعية.
وتروي شهرزاد أنها تساعد والدتها في أعمال البيت الخفيفة عند عودتها من عملها ، فهي دائمة الشكر لله على ما تتقاضاه من راتب.
وبالعودة إلى جمعية الحق في الحياة، تجلس الشابة آلاء المصابة أيضا بمتلازمة داون - 27 عاما- أمام معلمتها ممسكة بإبرة وخيط وقطعة قماشية تم تكليفها بتطريزها، وذلك في مشروع بطالة من الوكالة للعمل لمدة ستة شهور داخل المؤسسة .
عند الاقتراب منها حاولت الانشغال لتوحي بأنها منهمكة بالعمل ولا وقت لديها للحديث، لكن بمجرد طرح الأسئلة عليها عدلت من جلستها وباتت تتحدث بثقة رغم كلماتها البسيطة:" أنا موظفة بالمؤسسة وبعمل غلاف جوال مطرز لخطيبة أخويا "، متابعة : بالبيت أساعد أمي في إعداد الطعام والتنظيف.
وبالقرب من آلاء كانت المدرسة المشرفة عليها وداد القيشاوي حيث أنها ذكرت أن طالبتها تستوعب أكثر من غيرها فهي حينما تعلمها إحدى رسومات التطريز الصعبة تحفظها غيبا.
وأضافت أن هناك العديد من الفتيات يرفض ذووهن التحاقهن بعمل التطريز خشية على عيونهن كما تعصب فتيات أخريات عيونهن بسبب الشعور بالملل ويرمين ما بأيديهن بعيدا.
معاقون يعيلون أسرهم
وفي الجمعية ذاتها كان يتأهل الشاب يوسف 22 عاما ليخرج للمجتمع كشخص طبيعي وهذا ما حصل فعلا مع يوسف بعد أن بات بعمر العشرين ظفر بوظيفة عمل داخل الجامعة الإسلامية كعامل نظافة ومن ثم تزوج وأنجب ابنتين من زوجة حاصلة على الثانوية العامة.
وبحسب المحيطين بيوسف فإن لديه ثقة عالية بنفسه فتجده يذهب إلى السوق وحده ويجلب ما يحتاجه البيت من متطلبات، كذلك يكون أول من يهرعون لتأدية الصلوات في المسجد بالرغم من وجود بعد المحيطين الذي يهزءون منه لكنه لا يأبه لأحد.
وهذا يدل على أن ذوي الاحتياجات الخاصة لديهم القدرة على العمل رغم التأخر العقلي الذي يعانون منهم الفتى محمود 16 عاما مصابا بالتوحد فهو يعاني من قلة الانخراط بالمجتمع ، لكن بعدما كثف الأخصائيون جهودهم ليحسنوا قليلا من حالته استجاب لهم وأصبح مساعدا لمعلمه في ورشة السجاد ، بالإضافة إلى أن ذويه باتوا يعتمدون عليها بالذهاب لأي مكان ويحضر ما يحتاجونه للبيت فهو يحضر أيضا للجمعية وحده.
بعد الاستماع لبعض الحكايات عن كيفية دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع وقيامهم ببعض الأعمال التقت "الرسالة" مدير البرامج بجمعية الحق في الحياة نبيل جنيد وتحدث أنه يتم تأهيل مرضى متلازمة داون أو التوحد في برامج التأهيل المهني إذا كان فوق 18 عاما ومن ثم يحول بعضهم للتشغيل الخارجي.
ويوضح أنه بعد تأهيل الطلاب في البرامج المختلفة كرياض الأطفال والمدرسة الخاصة وما قبل التدريب المهني فانه يتم تحويلهم لبرامج الورش المهنية لمعرفة ميولهم حيث يختار كل واحد حسب قدراته العقلية والجسمية .
و أشار جنيد إلى أن تدريب الطلاب يتم على عمل السجاد أو الخيزران والمشاتل الزراعية وأعمال النظافة ، بينما الفتيات يتدربن على التطريز والتدبير المنزلي وأعمال النظافة والمطبخ الإنتاجي ، بالإضافة إلى أنه يوجد بعض منهن يساعدن المدرسات لضبط الصفوف في الجمعية.
وأكد أن دور الجمعية لا يقتصر على التدريب بل السعي لإيجاد فرص عمل تتناسب مع قدراتهم التي تؤهلهم للتكيف مع العمل الجديد، لافتا إلى أنه تتم متابعتهم نفسيا واجتماعيا بعد عملهم.
وعن طبيعة أماكن العمل التي توفرها الجمعية لذوي الاحتياجات الخاصة قال جنيد :" لا نضع أبناءنا إلا في المؤسسات الرسمية المحافظة التي تتناسب مع قدراتهم، حيث نختار المكان بعناية لنضمن أنهم لن يتعرضوا للضرب أو الإهانة ويكون أرباب العمل صالحين ".
وبين أن أحد ابناء الجمعية تمكن من الحصول على أول وظيفة حكومية رسمية في وزارة الصحة، بالإضافة إلى وجود أربعة عشر طالبا يعملون على بند البطالة في الوكالة.
وأضاف مدير البرامج :" الطلاب لديهم فرص عمل أكثر من الفتيات والأمر يرجع إلى أن ذوي الطالبات يرفضون عملهن خشية تعرضهن لمكروه".
وفي ختام حديثه لام جنيد المؤسسات الحكومية لعدم تعاونها مع الجمعية في دمج مرضى متلازمة داون فيها، مشيرا إلى أن غالبية الطلاب يعتبرون المعيل الوحيد لأسرهم فمنهم المتزوج أو اليتيم.
وبالرغم من نظرة المجتمع التي لازالت تعيق وجود ذوي الاحتياجات الخاصة ،إلا أنهم تمكنوا من إيجاد فرص عما تتناسب مع قدراتهم ليكسبوا رزقهم من عرق جبينهم.