غزة-محمد بلّور-الرسالة نت
"أضعف أنواع الحبر أفضل من أقوى ذاكرة" , انطلاقا من هذا المثل الانجليزي تستحق تجربة الأسير المحرر عمر الغول 51 سنة "أبو عمران" أن تسجّل.
التوثيق ليس مراده إعادة الألق لما فعل قبل 25 سنة! ولكن الرواحل مثله ومثل شقيقه الشهيد "أبو بلال" يمرّون قليلاً ويغادرون.
البداية
الصور كلها طازجة في عيني أبي عمران وذلك لأن 25 سنة لا تترك الكثير ليعلق بالذهن فتخّر الذاكرة تحت أقدام النسيان.
عاد أبو عمران لقرية المغراقة التي سكنها قبل 45 سنة وأشعل هو وشقيقه منها فتيل المقاومة في أرض لم تعرف إلا زهور البرتقال وجنود الاحتلال الذين يتولون حراسة "مستوطنة نتساريم".
قسماته الهادئة التي تحلّت بخطوط متعرّجة حول عينيه تكشف عن كنانته الممتلئة بالتجارب في الأسر والمقاومة والتي لا تحتاج سوى لنبش الذاكرة.
تعرف على العمل الإسلامي على يد شقيقه الشهيد عدنان الغول وتبعه صديقاً ومقاوماً.
يعد واحدا من الشباب المفعم بروح العمل في السبعينات في قرية المغراقة والذين جمعتهم علاقات بمشايخ مخيمي النصيرات والبريج حين أسسوا أول مسجد بالقرية.
لم يرق للشهيد عدنان الغول رؤية الجنود و"المستوطنين" يحومون في "مستوطنة نتساريم" القريبة من منزلهما وبيارة أبيهم فقرر الشروع في المقاومة.
اندلعت نقاشات ومطالب بين الشهيد الغول وقيادة جماعة الإخوان المسلمين لبدء العمل المسلح سنة 1982 و1983 والذين نزلوا عن رغبة الغول بإيماءة صامتة.
تشكلت المجموعة العسكرية الأولى من شباب إسلامي متحمّس على رأسهم الشهيد الغول وشقيقه المحرر أبو عمران والمحرر أبو نضال حسّان وعبد الكريم أبو ربيع وناهض الوحيدي.
العمل المسلّح
مثل أبي عمران لا يحلم بسيارة حديثة ولا معطف فراء أو ساعة سويسرية ومنزل فاره, فهو ينتمي لكوكب آخر يدور في مجرّة درب المقاومة!.
عن ذلك يضيف :"بدأنا العمل أواخر 1984 وفي بداية 1985 وكان هدفنا الاحتلال وعملائه فنفذنا عدة عمليات".
شبكة المعلومات والخطط العسكرية كانت تصفّ خيوطها في رأس الشهيد أبو بلال المقرّب جدا من شقيقه وصديقه في آن واحد أبو عمران.
لم تمتلك مجموعة الغول في بداية العمل سوى قطعة سلاح قديمة "كارلو" وبضع رصاصات لكن البداية كانت حتمية بالنسبة للشهيد الغول وشقيقه.
العملية الأولى كانت ضد جنود الاحتلال على الطريق الشرقي وتفاصيلها هو نصب كمين لشاحنة عسكرية أصيب فيها السائق.
منحت القرية الزراعية "المغراقة" أبا عمران وشقيقه فرصة تأمل ذلك الضوء المخترق لحلكة الليل من مصابيح عسكرية كان يعبث فيها جنود على بحر النصيرات.
عن ذلك تابع: "كنا نرى أنا وأبو بلال كشّافات لجنود تتجول في الفضاء انطلاقاً من الموقع العسكري على البحر فقررنا استهدافهم".
اقترح أبو بلال استهدافهم بعبوة ناسفة ونظرا لقلّة الإمكانات استعان الغول بلغم قديم وقنبلة نصف معطوبة أصلحها وجمعها في عبوة.
تسلل أبو بلال للموقع المطل على البحر ونصب العبوة واللغم لأربعة جنود لم ينتبهوا لحركته وهم منشغلين بلعب "النرد".
انفجرت العبوة الموقتة عند الحادية عشر ليلاً ولم يسمع لهم صوت ولم يحضر لهم إنقاذ حيث لم تكتشف قوات الاحتلال مقتلهم سوى لحظة تبديل المناوبة عند الثالثة فجراً.
ضابط المخابرات
ضخّ نجاح العملية الثانية الهواء في رئة المجموعة المقاومة فقررت انتقاء هدف مختلف ليكون هذه المرة تجاه ضابط مخابرات يدعى "أبو خضر" وجندي مرافق له حيث لم تعلن المجموعة مسئوليتها عن كل العمليات.
تحسّنت إمكانات المجموعة العسكرية بزيادة العتاد فتسلّحوا بثلاث بنادق "كارلو" وقطعتين "كلاشينكوف" و"مسدسين" و5000 رصاصة.
اختارت مجموعة أبو عمران الساعة الفاصلة بين المغرب والعشاء لرصد ضابط المخابرات المعتاد التنقل على طريق بين قلب مدينة غزة وجباليا.
أدار أبو عمران محرّك السيارة "بيجو 404" متجها نحو الهدف وبجواره أبو بلال وفي الخلف ناهض الوحيدي وقد تمنطقوا جميعا بنادق كارلو ومسدسات.
ظهرت عربة الضابط تخرج من حي "قرقش" فلحقت بها عربة الغول وعندما صارت موازية لها شعر الضابط بخطر العربة المجاورة فأجرى اتصالا ثم قبض على مسدسه.
عن ذلك يتابع: "كانت الخطة أن ينزل الاثنان ويطلقوا النار ثم يخلّصوهم أسلحتهم وعندما شعرنا أنه شك بنا فتحنا النار فأصيب الجندي وحاول الضابط الاحتماء بباب السيارة".
فرّت عربة الغول قبل أن ينهض الضابط ويطلق النار عليها ويصيبها في زجاجها الأمامي وكشفت الأنباء لاحقا عن إصابة الجندي بأربعة عشر رصاصة والضابط بجراح خطرة قتلوا على إثرها.
استمر عمل مجموعة الغول ضد جنود الاحتلال وعملائه حتى سنة 1987 وقد حظيت المجموعة بملاحقة الاحتلال المتواصلة.
تعرّف أبو بلال الغول على الشهيد مصباح الصوري الذي استشهد لاحقا بعد ملاحقة الاحتلال حيث بدأت خيوط مجموعة أبو عمران وشقيقه تقع في يد الاحتلال.
الاعتقال
ظاهرة الاعتقال لم تدق باب الأسرة حديثا فقد سبق أبا عمران ثلاثة أشقاء معتقلين نال أحدهم الحرية في صفقة التبادل سنة 1985.
بعد 37 يوما من المبيت خارج البيت اضطر أبو عمران للمبيت في بيته لوعكة صحية ألمت به فداهمه الجنود واعتقلوه لسرايا غزة.
بدأت رحلة الاعتقال في أكتوبر 1987 وفي مارس 1988 نقل الاحتلال الغول لسجن عسقلان بعد جولات تحقيق قاسية وتعذيب جسدي.
تمكن عدنان الغول وناهض الوحيدي من مغادرة فلسطين وحكم الاحتلال أبا عمران بالسجن المؤبد 3 مرات و20 سنة بتهمة المشاركة في القتل بينما لم يعترف هو سوى أنه كان سائق المجموعة.
لم تكن حماس قد أعلنت عن اسمها بعد فكانت السجون تضم أسرى من جماعة الإخوان والجهاد الإسلامي نالوا اسم "الجماعة الإسلامية".
أنجب أبو عمران 4 أولاد وبنتين وقد اعتقل وكانت زوجته بنت 23 سنة وابنها البكر لم يتجاوز الخامسة والنصف من عمره.
عانت أسرة أبو عمران بعد اعتقال ربّ الأسرة فتولّت زوجته التي يصفها "بالصابرة والمضحيّة" مشقة الحياة متابعاً: "أكبر نعمة بعد أن هداني الله للإسلام هي زوجتي التي صبرت وتحمّلت والكل يشهد على ذلك".
عودة الأمل
مشاهد الألم والمعاناة تتشرنق في حجرات السجن بألوان قاتمة كلها مؤلم وأيسرها صعب.
يسند أبو عمران فكه بإصبعي السبابة والإبهام مستدعيا أيام المعاناة فيقول إن اندلاع انتفاضة الأقصى سنة 2000 أشعلت شمعة الأمل في قلبه ما جعله يكرر دعاءه بتغيير الحال.
عن أصعب ساعات السجن يضيف: "أصعب شيء على الأسير وقت القمع ورشنا بالغاز وحين ترى أسير بجوارك مريض ويموت وحين يمنعوا عنك الكهرباء والماء ويؤخروا الطعام".
يعتبر أبو عمران فترة الحسم العسكري أنها كانت هامة لحماس بمفهومه "نكون أو لا نكون" وكذلك "حرب الفرقان" وكذلك حادثة استشهاد ابنه عمران التي أعقبها اعتقال نجله محمود.
يحكّ ذقنه ويتابع: "كنت أتابع الأخبار العبرية عبر الصحف والراديو والتلفزيون بشكل متواصل وتوقعت نشوب حرب ولكن ليس بتلك القسوة".
ويرى أن الاحتلال تعلم من حربه مع حزب الله 2006 فلم يعلن عن خسائره في حرب غزة التي اسماها "عملية الرصاص المصبوب" أملا في الحفاظ على ماء وجهه.
ويضيف :"في كل سنة في ذكرى الكارثة والبطولة يعلنون عن القتلى في ساحة المعركة دون مزيد من التفصيل وبعد حرب غزة ذكروا أعدادا كبيرة !".
ويؤكد أن الاحتلال فشل في حربه فقد تمنى أن يدخل ايهود أولمرت رئيس الوزراء السابق على دبابة في شارع عمر المختار ويعتقلون الشيخ القائد محمود الزهار ورئيس الوزراء إسماعيل هنية-كما قال.
ويستهجن من ضعف مفاوضات السلطة مع الاحتلال وعدم تمكنها من تحرير المقاومين حتى أتت صفقة و"فاء الأحرار" التي دفع الشعب ثمنها قبل الحرية.
وعاش الغول سنوات برفقة الأسرى يدعوا بنجاح الصفقة متخوّفا من غدر الاحتلال المرتقب في أي لحظة.
وحين نال حريته تفتّحت عيناه مرة أخرى على غزة بمعالم أخرى غير التي ألفها فعاد إلى قريته من جديد بعد غياب زاد على 24 سنة.
ويفخر برجال المقاومة في المغراقة الذي لقنوا الاحتلال درسا كبيرا في آخر أيام الحرب حين قتلوا وأصابوا من جنوده وآلياته الكثير.
واليوم يعيش أبو عمران أياما دافئة برفقة أسرته وأحفاده الذين يبتسم كثيرا وهو يراقبهم يحومون حوله.