المحافظة الوسطى-محمد بلّور-الرسالة نت
"أليس" ليست وحدها في بلاد العجائب فسكان غزة أيضا يعيشون في بلاد العجائب ! وهم يصنعون مجداً متجرّعين مرارة الأسر ولوعة الفراق.
تسير الأمور بنسق منتظم في حياة المحرر أكرم الصعيدي 32 سنة بعد قرابة 9 سنوات من الأسر في سجون الاحتلال.
وفقدت أسرة الصعيدي أحد أبنائها شهيداً واعتقل أشقاؤه الثلاثة ودمرت عدة منازل للأب وأبنائه في عدوان على قرية المغراقة قبل 9 سنوات.
مقابل "نتساريم"
تسمح السنوات التسع الماضية للمحرر أكرم تذكر جزء كبير من تفاصيل الحادثة التي ألمت بأسرته وقذفته وأشقاؤه خلف القضبان.
تدغدغ ذكريات السكن في المغراقة المحببة إلى قلبه أياما حلوة بدأها سنة 1996 حين قرر الأب وأبناؤه السبعة الإقامة في القرية الواعدة.
بدأ نشاطه المقاوم بمراقبة مستوطنة "نتساريم" وحركة الجنود والآليات فيها مع اندلاع انتفاضة الأقصى وقد حظي بفرصة الالتقاء بالشهيد القائد أبو بلال الغول الذي يقطن ذات المنطقة.
يقدم حديثه بابتسامة قبل أن يضيف: "بدأت العمل كراصد للمستوطنة ثم عملت في نشاطات مقاومة مختلفة وشاركت في عدة مهمات".
بكاميرا فيديو وأوراق مرتّبة سجّل كافة تحركات الآليات والجنود وعمليات التجريف حول المستوطنة ورفعها للقيادة العسكرية.
وجد الصعيدي في الشهيد عدنان الغول شخصية قيادية تدعم كافة المقاومين الراغبين في مقارعة الاحتلال فهو متعاون بأقصى إمكاناته.
بعد محاولة اغتيال الشهيد الغول وتنفيذ المقاومة لعدة عمليات انكشف أمر مجموعة الصعيدي لكنه لم يغادر القرية.
وتابع:" بعد انكشافنا أنا وزملائي جهّزنا أنفسنا وزرعنا عبوات حول المنازل لصد أي دخول للدبابات".
التحليق المكثف لطائرات الاستطلاع وحركة الجنود قرب جدار المستوطنة كلها كانت تبشّر باجتياح وشيك في تلك الليلة.
ساعة الهجوم
اشتد ظلام القرية ولم يخترق صمتها سوى صوت آليات الاحتلال داخل المستوطنة قبل ساعات من انطلاق العدوان.
نشر الاحتلال عبر عملائه نيته الاجتياح لهدم منزل شهيد نفذ عملية في المستوطنة قبل فترة لتبرير بعض تجهيزاته المعلنة.
عاد أكرم من مهمة على الطريق الشرقي في جحر الديك للمنزل ثم خرج ثانيةً باتجاه المستوطنة فتسلل لسمعه صوت قص السلك الحديدي بيد مجموعة مسلحين.
وأضاف:" لم أحددهم هل هم مقاومين أم جنود الاحتلال فقد شاهدوني وأنا أمر قربهم مدني أعزل وقد بدؤوا في اعتلاء بعض المنازل".
عاد للبيت مرة أخرى قبيل الفجر واتصل بالشهيد عمران الغول فأخبره بتحرك كاسحة ألغام نحو طريق صلاح الدين وأخرى نحو "تل العجول" ما يدل على اجتياح وشيك للمنطقة.
أخذته سنة من النوم قبل أن يستيقظ على صوت شقيقه زكريا يخبره أن شابا اتصل به ليخبره أن الاحتلال اعتقل أحدهم.
وتابع:" اتصل وسأل أين أنت ؟ فقلت له في البيت-اكتشفوا لاحقا أنه جاسوس وهرب- ولما تأكد عاود الاتصال وقال إن الاحتلال قبض على ذلك الشاب على حاجز أبو هولي".
حاول النوم مرة أخرى وبعد دقائق استيقظ على صوت انفجار عنيف قبل أن يأتيه اتصال من الشهيد عمّار حسان يؤكد استشهاد عمران الغول.
كان الهجوم قد بدأ قرب منزل الغول قبيل الفجر عندما أحاط الاحتلال بمنزل أبي عمران فاكتشفهم الشهيد محمد الغول وهو متوجه لصلاة الفجر.
أطلق محمد الرصاص نحو الجنود فردوا بإطلاق النار عليه حتى استشهد ثم حاصروا منزل أبي عمران ففجر فيهم الشهيد عمران عبوات ناسفة حول المنزل قبل هدم البيت واستشهاده.
الاعتقال
سرت الدماء حامية في عروق أكرم وأشقاؤه بعد سماع نبأ استشهاد عمران فحاول امتشاق بندقيته والخروج نحو منزل عمران.
في الطرف الآخر من القرية كان جنود الاحتلال ينسحبون بعد هدم منزل عمران ومقتل احدهم وإصابة آخرين.
عن ذلك يضيف:" عاد شقيقي زكريا وقال اليهود الآن على باب بيتنا وقد كان الجنود يصرخون في الخارج لنفتح الباب فأخذت بندقية وناولت أخرى لزكريا وتفرقنا كل واحد في اتجاه".
حلّقت مروحيتان فوق منزل الصعيدي بكثافة وبدأت الطائرة بإطلاق النار وأطلق زكريا النار نحو الوحدات الخاصة حتى استشهد.
سمع أكرم صرخة زكريا حين استشهاده وبعد فترة اتخذ الجنود شقيقاته الاثنتين ووالده دروعا بشرية وأجبروا أباه أن يطالبه بتسليم نفسه.
قبل أن يقيدوه خاطبه أحد الجنود قائلا "قتلنا شقيقك والآن سنفجر بيتكم", ثم ضغط زر التفجير أمامه فتطاير البناء أمام عينيه".
اعتقل الاحتلال الأب وأبناءه متوجهين لموقع كسوفيم حيث بدأ التحقيق مع أكرم ومواجهته باتصالات مسجّلة وتصوير من طائرة الاستطلاع لكافة تحركاته.
نقل الاحتلال أشقاءه للمعتقلات ونقلوه لسجن عسقلان بينما أطلق سراح والده لاحقا حيث استمر التحقيق معه لشهرين ركز فيه المحققون على عملية استشهادية متوقعة في الداخل.
حياة الأسر
حين أدار السجّان مفتاحه في القفل الحديدي ودفعه للحجرة كان يعلن له بطريقته أنه الآن في عالم جديد.
التقى في البداية بالمحرر القائد توفيق أبو نعيم فاستقبله في عسقلان ودلّه على قسم 7 فعاش فترة من الزمان قبل التنقل ما بين بئر السبع وإيشل ونفحة.
حكمه الاحتلال بالسجن 20 سنة بتهمة المشاركة والضلوع في أعمال قتل والرصد والمتابعة ثم حكم شقيقيه صهيب 5 سنوات وعوض 16 سنة.
تعلم في السجون علوم القران والحديث واللغة العبرية وغيرها من العلوم وساعد قادة السجون في مهمات تنظيم الحياة اليومية.
تفاجأ باسمه المدرج من بين المحررين وهو يسجل القائمة في اتصال هاتفي مع الشيخ صالح العاروري فهرع ليخبر والده عبر الهاتف النقال.
الوداع
ذلك اليوم أضحك وأبكى جموع الأسرى وهم يصلون الجمعة قبيل التحرير وقد قام فيهم الأسير محمود شريتح خطيبا.
عزّى شريتح نفسه وكبار الأسرى ببقائهم في السجون وهنّا البقية بنيل الحرية فدخل الكل في جولة من البكاء استنفرت معها إدارة السجن لما رأت الموقف مشحونا.
وحزن الصعيدي لبقاء الأسرى داخل السجون وعلى رأسهم معاذ وعثمان بلال والأسير حسن سلامة والسعدي وآخرين.
وأكد أن الأسرى يطالبون بألا ننساهم وأن نعمل على تحريرهم ونصرة قضيته بشتى السبل في كل يوم.
والدة الأسرى
"كانت أحلى أيام ... أيام الرباط...!" بهذه الكلمات تجيب والده أكرم عن أيام مشاركة أبنائها في أعمال المقاومة قبل اعتقالهم.
وأشارت أن لكل شيء ثمن فأي مقاوم مصيره إما أن يكون أسير أو شهيد أو جريح.
وأضافت: "أنا والدة الشهيد زكريا والأسرى خرج منهم اثنين وبقي واحد وكوني أم شهيد خضت التجربة ونسف بيتي أقول للام الفلسطينية كل ما يجري لا يهزنا".
وترى أن الشعب الفلسطيني بصموده قادر على التغلب على كافة الصعوبات داعية الأمهات للصبر والثبات إذا قدمن الشهداء والأسرى.
ووجهت لابنها الأسير عوض كلمة مضيفة: "اصبر فالله معك واصبر فهذا قدر كافة الأسرى والله لن يضيع الأجر".
وتجسّد أسرة الصعيدي نموذجا حيّاً على الأسرة الفلسطينية التي قدمت الشهداء والأسرى وفقدت منازلها على يد الاحتلال .