غزة – مها شهوان
في مشهد لم يألفه قطاع غزة إلا بعد حرب الفرقان.. حالات كثيرة اضحت مشوهة بفعل الاسلحة المحرمة التي يستخدمها جنود الاحتلال ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.
من بين تلك الحالات, الطفلة سهاد ابنة العام ونصف ذات الرأس والأطراف المشوهة.
تقول والدتها بحسرة تكتويها: "اكتشفت في احشائي طفلة مشوهة بعد الشهر السادس حيث منعني الاطباء من الاجهاض خشية على حياتي ولفتوى تحرم ذلك، مبينة بأن الأطباء ارجعوا تشوهها الى القنابل والفسفور الذي تعرضت له منطقتنا في الشجاعية حينما كنت حاملا في الشهر الثاني".
واضافت:" عرضت طفلتي على اطباء اجانب جاءوا الى القطاع فأكدوا أن حالتها ميؤوس منها ولن تعيش طويلا، إضافة إلى أنها الوحيدة في عائلتها من أنجبت طفلا مشوها مما جعلها موضع شفقة باستمرار ، وأوضحت انها كانت تخشى الحمل للمرة الثانية لكن قدر الله شاء ان انجب طفلا معافى.
ليست وحدها الطفلة سهاد من خلفتها الحرب بعيب خلقي, فهناك غيرها خرجوا للحياة واخرون لازالوا ينتظرون الخروج للنور من بطون امهاتهم، الامر الذي دفع وزارة الصحة وبعض الاطباء الاجانب لدراسة تلك الحالات من اجل معرفة إذا كان للحرب والاسلحة المحرمة دوليا دور في وجودها ، لذا سلطت "الرسالة" بدورها الضوء لمعرفة النتائج التي وصل إليها الباحثون وكذلك دور وزارة الصحة بتقديم الخدمات لذوي العيوب الخلقية.
الفسفور والعوامل البيئية
الفتى عصام محسن -15 عاما- حاول الاطباء اجراء عمليات تجميل للحروق التي أصابته بفعل شظايا فسفورية, لكن دون فائدة.
بنبرة هادئة يقول عصام: "أول مرة نظرت فيها لنفسي عبر المرآة خفت كثيرا ولم أصدق أن ملامح وجهي تبدلت بحروق يشمئز الناظر اليها "، مضيفا بحرقة كالحروق التي غطت محياه: "بات اصدقائي وأقاربي الذين هم بعمري ينفرون مني حتى اصبت بحالة نفسية جعلتني لا اطيق الحديث مع أحد وألوم نفسي لخروجي من البيت".
"الرسالة" التقت الطبيبة الايطالية ماندوكا باولا في مستشفى الشفاء, وسألتها عن أسباب العيوب الخلقية في قطاع غزة, فأجابت: "أعددت عام 2010 دراسة حول اسباب التشوهات في القطاع غزة, شملت فئة الأطفال من عمر يوم حتى 28 عاما ووجدت أن عددا قليلا منهم مشوه بسبب زواج الأقارب.
وقالت:" نسبة الامهات اللواتي تعرضن للفسفور الابيض كانت 1.7 % من 3 آلاف حالة، بينما مجموعة الأطفال الذين ولدوا بعيوب خلقية فإن 27 % منهم تعرضت امهاتهم للفسفور و30 % تعرضن للقصف بطريقة أو وبأخرى".
وتزامنا مع الدراسة التي اعدتها الطبيبة الايطالية, أعد د. نبيل البرقوني مدير مستشفى النصر للأطفال بحثا حول العيوب الخلقية لدى الاطفال من عمر صفر حتى عامين في مستشفيات القطاع عام 2011 ، جمع معلوماته من ملفات مستشفيات النصر والرنتيسي والهلال الاماراتي والحضانة في مستشفى الشفاء لدراسة التشوهات التي بحاجة لعمليات جراحية.
ويقول: "خلال تقليب الملفات حرصت على معرفة نوع التشوه الخلقي ومدى قرابة الابوين واذا كان لديهم طفل مشوه من ذي قبل وكذلك مدى قربهم من المناطق التي قصف خلال الحرب".
وأضاف البرقوني: نتائج البحث أفرزت ان معدل حدوث التشوهات الخلقية في غزة يقارب 6.7 لكل الف مولود وتنحصر هذه التشوهات اكثرها في محافظة الشمال وكانت تعادل 85% في الألف ، غزة 7.6 % في الألف وغالبيتهم في التفاح والشجاعية ، وكذلك في منطقة رفح تعد نسبتهم 7.6 , بينما في خانيونس كانت النسبة قليلة 3.8 لكل الف مولود .
وعن التضارب في نسب الاحصائيات لذوي العيوب الخلقية يقول مدير عام التعاون الدولي في وزارة الصحة د. محمد الكاشف:" الاختلاف يعتمد على نوع البحث الجاري وزمنه والشريحة المستهدفة لذى من الطبيعي وجود اختلاف مع الارقام المتعلقة بالأبحاث ".
وتعود د. ماندوكا للقول: "العيوب الخلقية متواجدة باستمرار دون وجود الفسفور لكن نسبتها زادت بسببه مؤخرا، وهناك ترابط قوي بين التعرض لأحداث حربية والعيوب الخلقية".
وتتشابه نتائج بحثي الطبيبة الايطالية والبرقوني التي أرجعت سبب العيوب الخلقية للحرب باعتباره رئيسيا وقتئذ، مبينة أن للعوامل البيئة بشتى انواعها -المواد المعدنية او الاسلحة والرصاص والفسفور- الاثر على وجود حالات من ذوي العيوب الخلقية.
عنصر جيني وراثي
وفي حكاية لأبوين انجبا اثني عشر ابنا اربعة منهم اصحاء والبقية مشوهة خلقيا، لكنهم مع كل مرة كانوا يصرون على الانجاب ويرضون بما قسمه الله رغم معاناتهم مع ابنائهم لاسيما وان اكبرهم تجاوز السادسة والعشرين من العمر.
تقول أم أيمن .غ وهي تسرح شعر احدى بناتها التي تعاني من عيوب في اطرافها :" دائما ما يسمعني الاخرون كلاما يجرحني وكأن لي ذنبا في معاناة ابنائي.
ووفق أم ايمن فإنه لا يوجد قرابة بينها وبين زوجها وكذلك لم تتناول أيا من الادوية التي تساهم في تشوه الاجنة.
وعن ابرز التشوهات التي توصلت اليها الايطالية ماندوكا عبر دراستها أن هناك عددا من الاطفال لديهم مياه في الرأس أو فتحة بالظهر او المخ مكشوف او لديهم اضطرابات بالجهاز العصبي.
ومن خلال بحث د. البرقوني توصل إلى ان نسبة كبيرة من الأطفال لديهم نسبة رصاص عالية في الدم ويتعرضون لمشاكل في الجهاز العصبي كونهم يقطنون في أماكن صناعية لتجميع مخلفات السيارات مما يدلل على ان العوامل البيئية تسبب مشاكل خلقية لدى الاطفال وحتى الكبار ايضا.
واعتبر أن البحث الذي اجرته الطبيبة الايطالية ماندوكا الذي اثبت ان قطاع غزة يعاني من زيادة نسبة التشوهات عن بقية الدول الصناعية بحاجة الى أدلة.
وأكد البرقوني على ضرورة وجود اجهزة وفحوصات لإثبات أن الاحتلال يقف خلف ولادة اطفال ذوي عيوب خلقية باعتبار ذلك يدعم الدراسات المختصة لإقناع العالم بجرائم الاحتلال.
وردا على طلب الطبيب البرقوني أوضحت ماندوكا أن لديها صورة وأوراق توثق كل ما جمعته من معلومات، مشيرة إلى أنها ستواصل بحثها للوصول الى نتائج اخرى باعتبار ان تلك الحالات بحاجة للاستمرارية من أجل الوصول الى حل لتلك المشكلة.
ووفق رؤيتها فإنه لم يتضح وجود مؤشرات لعنصر جيني وراثي فعلي في العيوب حسب دراستها.
الأمهات الحوامل والعيوب الخلقية
داخل حضانة الاطفال في مستشفى الشفاء عشرات الحاضنات التي تضم الاطفال الخدج وحديثي الولادة من بينهم أطفال تظهر عليهم بعض العيوب الخلقية.
بدورها التقت "الرسالة" د. حنان الوادية رئيس قسم العناية المركزة لحديثي الولادة وتحدثت أنه من خلال عملها في المستشفى طيلة الـ25 عاما تبين لها أن التشوهات الخلقية تتشكل في القلب وكذلك بالأمعاء وانسداد المريء والفتق الحجابي بالإضافة الى انجاب بعض الاطفال الذين يعانون من دخول الامعاء للرئتين أو ذوي رؤوس كبيرة "الاستسقاء الدماغي" او لديهم اضطراب بالتمثيل الغذائي.
في حين صرحت الطبيبة مادونكا أن مستشفى الشفاء لا يمتلك ما يكفي من التجهيزات الطبية مما يؤدي الى وفاة حوالي 50 % من الذين يولدون بعيوب خلقية أو في ولادات مبكرة, كما ينقل الى قسم العناية المركزة ما بين 3 - 4 في المئة منهم.
وفيما يتعلق بالصعوبات التي واجهتها خلال اعداد دراستها أوضحت أن هناك عوائق دينية وطبية واجتماعية وكذلك لا يوجد معلومات حول موضوع التشوهات لدى الاطباء او ابحاث معتمدة، بالإضافة إلى أنها وجدت حالات من ذوي العيوب الخلقية خلال بحثها اكثر من المسجلين في ملفات الصحة.
وردت الوادية على الطبيبة الايطالية:" كل حالة من الحالات التي تولد بعيب خلقي تسجل في ملفات، وهناك بعض العيوب تكون موسمية كأن يولد في فترة معينة اطفال يعانون من الفتق الحجابي".
وذكرت أنه فور ولادة الطفل يجري ابلاغ ذويه واطلاعهم على حالته لوضعهم في الصورة حيث توجد حالات كثيرة بحاجة لجراحة أو التجميل للشفة الأرنبية أو سقف الحلق على سبيل المثال، لافتة إلى أن العديد من الأهالي لا ينتظرون بقاء الام وطفلها ليوم واحد بالمستشفى لعمل الاجراءات اللازمة وبعد ايام يهرعون ويشتكون من حدوث مشاكل لأبنائهم.
ومن خلال ملاحظتها ترى أن لصلة القرابة بين الابوين دورا في انجاب أطفال مشوهين، وبالنسبة لدور الحرب علقت "دائما نعيش تحت الاحتلال لكننا بحاجة لإثبات ذلك عبر الدراسات المتخصصة".
وطالبت الوادية بضرورة توفر علماء مختصين لتحليل التربة والمياه بعد القصف لان ذلك سيؤثر على المواطنين ويسبب التشوهات، ناصحة الامهات الحوامل بالابتعاد عن بعض الادوية التي تسبب تشوهات للجنين لاسيما من لها تاريخ مرضي.
ووافق مدير مستشفى النصر للأطفال د. البرقوني قول الوادية قائلا:" عدم توفر الفحوصات السابقة يرجع لعدم وجود الكفاءات من الاطباء والمختبرات في قطاع غزة".
وأشار إلى أن التشخيص المبكر للأم الحامل يساهم في اكتشاف التشوهات عبر الاشعة "الألتراساوند" التي تكشف العيوب الظاهرة كتشوه العمود الفقري والعصبي والأورام الكبيرة حينما يبلغ الجنين 3 شهور ، وأيضا عبر اخذ عينة من السائل الامينوس وتحليله مخبريا للكروموسومات والأحماض الامينة وهذا غير متوفر عمله ، وتحليل عينه من المشيمية بالإضافة إلى فحص النسيج الميكروسكوبي مبكرا حينما يكون الطفل بعمر ستة اسابيع وهذا غير متوفر بالقطاع ايضا.
وعن الدور الذي تقدمه الحاضنات لرعاية الاطفال ذوي العيوب الخلقية ذكرت أنه يتم وضعهم بدرجة حرارة معينة ومحلول مركب اخر لأخذ العلاج وفتحات للتهوية والأكسجين، مؤكدة أنه يجري رعايتهم أكثر من العاديين .
يذكر أن مستشفى دار الشفاء أكبر مستشفيات القطاع التي يجري فيها عمليات ولادة بمعدل 13 ألف طفل كل عام ، وبحسب البيانات الاولية لوزارة الصحة فإنه في عام 2011 وصل عدد ذوي العيوب الخلقية من الاطفال الى 126 طفلا.
نشر النتائج بموافقة الصحة
وفي احدى دورات الثقة بالنفس جلست هناء -19 ربيعا- بعيدا عن زميلاتها موارية وجهها عن الاخرين مرتدية نظارة طبية تخفي "عينها المشوهة".
تحدثت لـ"الرسالة" عن حالتها بعدما حاولت التهرب: "منذ طفولتي اخشى الاقتراب من الناس كي لا يسألوني عن عيني" ، مضيفة: عندما تطلب احدى رفيقاتي المجيء لبيتنا ارفض كي لا ترى اخواني الاخرين فلدي شقيق لديه شلل وأخرى لديها عيوب خلقية في جسدها.
وبنبرة حزن تعكس ما يجول في نفسها تابعت :"ما ذنبي وأخواتي أن ينبذنا الاخرون فنحن ولدنا لأبوين هم اقارب ، دائما نلومهم انهم انجبونا بعاهات " ، موضحة أنه تم عرضها على اطباء مختصين لكن دون جدوى من تجميل عينها.
من جهته قال مدير عام التعاون الدولي في وزارة الصحة د. محمد الكاشف: " الفرق الطبية تأتي للمشاركة في الابحاث المختلفة للتعرف على أنواع وأسباب التشوهات في قطاع غزة, ودورنا التواصل من اجل تسهيل المهام بعد موافقة الوزارة ومن ثم يحول الاطباء الاجانب للجهة المختصة للموافقة على المعايير واحتياجات البحث وأخلاقياته والطرق المستخدمة فيه".
وعن مدى متابعة الوزارة للنتائج التي تخرج بها الابحاث الطبية أوضح أنه لا يتم نشر النتائج إلا بموافقة اللجنة الوزارية لنظم المعلومات وهناك ارقام وطنية تخضع لموافقة هذه اللجنة.
ولفت الكاشف الى أن وزارته حرصت على ضبط حالات العيوب الخلقية لمعرفة مدى تأثير الاسلحة المحرمة دوليا حيث تكونت لجنة من الصحة والتعاون الدولي مع عدة جهات منها لجنة ايطالية لدراسة التشوهات الخلقية وعلاقتها بالأسلحة المستخدمة .
وأشار إلى أن دراسة اسباب العيوب الخلقية متروكة للجنة وهي من تحدد وجود التشوهات الخلقية بالظروف المختلفة ومنها الاسلحة المحرمة ، موضحا أن هناك تشوهات متعلقة بالبيئة وطبيعة الغذاء والصفات الوراثية ايضا، إلى جانب حرص وزارته على تسجيل الحالات وتفصيلاتها وأنواعها ومدى ارتباطها بالعوامل الاقتصادية والصحية والاجتماعية.
وفود طبية لمعالجة التشوهات
وللوقوف على دور الادارة العامة للمستشفيات ومتابعتها لذوي العيوب الخلقية وتقديم الدعم لهم تحدث المدير العام فيها د. مدحت محيسن انه لا يمكن اجهاض المرأة الحامل بجنين مشوه إلا بعد مشورة المفتي العام للمدينة، لافتا الى عدم وجود قوانين شرعية تضبط هذه العملية لذا لابد من سن قوانين تضبط عملية الاجهاض.
ولفت محيسن إلى أن مستشفيات القطاع تقدم الخدمات اللازمة لذوي العيوب الخلقية عبر اقسام الجراحة للاعتناء بهم، بالإضافة إلى جلب الوفود الطبية لمعالجة التشوهات الخلقية عند الاطفال.
وعن الدور الذي يقومون به من اجل توعية الامهات ذكر أن الرعاية الاولوية تقوم بذلك من خلال الندوات والزيارات ومتابعتهم لهن خارج وداخل الوزارة.
وعلى صعيد تحويل الاطفال للمستشفيات في الخارج قال مدير مستشفى النصر للأطفال د. البرقوني خلال لقائه بـ"الرسالة":" في حال انجبت الام طفلا لديه تشوهات خلقية يتم تحويلها في المرة الثانية من الحمل الى مستشفى المقاصد في القدس او مستشفيات الأراضي المحتلة لعمل الفحوصات اللازمة لديها خشية انجاب طفل اخر مشوه" .
وارجع أسباب التشوهات إلى عوامل وراثية وأخرى بسبب تعاطي أدوية بطريقة غير صحيحة او اشعاعات وبسبب بعض المواد المستخدمة في الحرب.
ووفق محيسن فإن هناك حالات من التشوهات يمكن اكتشافها خلال الحمل عبر متابعة الجنين والأم الحامل لدى الاطباء المختصين وأخرى لا يمكن اكتشافها إلا بعد الولادة ، منوها إلى أن المستشفيات كافة تتعامل مع الحوامل بذات الدرجة لكن بعد الولادة تقدم خدمات لذوي العيوب الخلقية من خلال اقسام جراحة الاطفال بالتشاور مع اطباء الاعصاب والأنف والحنجرة والمسالك البولية والوجه والفكين والحضانات الاطفال والعناية المركزة.
وتبقى معرفة اسباب زيادة التشوهات الخلقية في قطاع غزة تتأرجح بين حبال العوامل البيئية وصلة القرابة بين الأبوين والاسلحة الحربية المحرمة دوليا التي تستخدمها (إسرائيل).