قائد الطوفان قائد الطوفان

الطفل اعتاد على جمع "الخردة"

"الرسالة نت" تتبع خيوط جريمة قتل "طنبورة"

 الرسالة نت - أمل حبيب

لم يرسم اليأس معالمه على وجهها كما فعل الفشل في كليتيها طوال أيام غيابه عنها.. وفؤادها على يقين بعودته لحضنها يوما ما.

كانت تلمح طيف طفلها فتناجيه: "أحمد.. أجيت يمه؟"، وتصغي أذنها للباب دوما لعل أنامله الصغيرة تطرقه، وعندما يحل المساء تجتاحها الهواجس فتنفجر بالبكاء ألما.

من بين وجعها على سرير غسيل الكلى انتقلت أم الطفل المغدور أحمد طنبورة إلى فصل جديد من الوجع اللامنتهي بعد العثور على طفلها متحللا في أحد البيوت المهجورة بحي العطاطرة بالقرب من بيت لاهيا -شمال القطاع- بعد فقدان دام 43 يوما.

قضية مقتل الطفل طنبورة يكتنفها الغموض وغياب الدلائل, ولكن هول الجريمة دفع "الرسالة نت" لتقمص دور المحقق عسى أن تكتشف شيئا يدلها على طرف الخيط, فسلكت الطريق نفسها الذي اعتاد المجني عليه السير فيه متجها نحو مدرسته -سخنين الإعدادية- يوم اختفائه.

"تعلن عائلة طنبورة أنها فقدت ابنها أحمد قذافي طنبورة البالغ من العمر 13 عاما صباح يوم الأحد الموافق 26/2/2012 وهو ذاهب إلى مدرسته (...) "وعليه نرجو من جميع الإخوة الأفاضل أن يكونوا عينا على البحث عن الفقيد وإبلاغ العائلة أو أقرب مركز شرطة عند معرفة أي خبر عنه".. الكلمات السابقة جزء من إعلان مهم أصدرته عائلة المجني عليه ووصل "الرسالة نت" نسخة عنه, ووزعوه على محافظات القطاع بمؤسساته ومدارسه ومستشفياته كافة.

مشهد الوجع كان جليا في بيت الفقيد وخصوصا والد أحمد الذي لم يستطع تمالك نفسه طوال فترة جلوسنا؛ فدموعه أعلنت حالة استنفار وهو يردد: "حسبنا الله ونعم الوكيل.. ليش قتلوا الصبي.. ايش عملههم.. الله يحرق قلبهم زي ما حرقوا قلوبنا عليك يابا", وبعد أن فوض أمره إلى الله احتضن صورة طفله أحمد وظل يقبلها.

في صباح يوم الأحد استيقظت الثكلى مبكرا متوجهة إلى مجمع الشفاء لغسيل الكلى، وطلبت من ابنتها أن توقظ أحمد حتى لا يتأخر.. لم تكن الأم تعلم أن نظرتها إلى صغيرها كانت الأخيرة، فتقول بعد أن زفرت أنفاسها الآه: "الله يرحمو كان عندي أمل كبير يرجع (...) لما طول وما رجع من المدرسة كنت أقول يمكن بلم بلاستيك ما تخافوا عليه".

الطفل أحمد اعتاد على جمع قطع البلاستيك (الخردة) لبيعها مقابل جني بضع شواكل ليحقق بها أحلامه البريئة, وبشواكله الأخيرة اشترى لأهله ليلة السبت الأخير (الآيس كريم) لتبقى ذكرى تبرد نار الغياب.

ليس سهلا أن ينتظر الأهل غياب طفلهم لأكثر من شهر وهم لا يعلمون عنه شيئا, فكانت الأم تبحث عن طفلها الضائع في ليالي الشتاء القارصة وهي تتساءل: "وينك يا أحمد.. بردان يمه أغطيك؟؟".

كل يوم كان يزيد الألم في قلب أبي أحمد، فبين لـ"الرسالة نت" أنه توجه إلى مدرسته ليسأل المدير الذي أكد أن أحمد لم يصل مدرسة سخنين يوم الأحد 26/2, وعند سؤالنا لوالد الفقيد عن التزام طفله بالمدرسة وعدم هربه منها أجاب: "المدير أكد لي أنه ابني ملتزم بالدوام المدرسي وما غاب من بداية العام غير ثلاثة أيام".

قطع حديث أبو أحمد ذكريات الأم مع ولدها بشوش الوجه كما وصفه كل من يعرفه, موضحة أنه حصل شجار بينها وبين عمها فتركت البيت متوجهة إلى بيت أهلها, فغضب أحمد وقال لجده: "ليش زعلت امي.. أنا رايح أجيبها".. توقفت الأم برهة عن سرد التفاصيل لتمسح دمعتها وتابعت: "أجا وقلي: عشاني يمه ارجعي عالبيت, ومسك ايدي وروحني".. "عاد أحمد منتصرا أمام جده وهو يمازحه قائلا: شايف هيني رجعتها".

جده الذي لم يتوقف عن الدعاء على قتلة حفيده الصغير طوال وجودنا في بيتهم بات يردد: "عايشين طول عمرنا بحالنا وما حدا بكرهنا.. طفل رايح على المدرسة ليش قتلوه؟".

فصول الجريمة

الغموض سيد الموقف في حادثة قتل الطفل بعدما طال اختفاؤه لأكثر من شهر.. وفي هذا الصدد صرح الرائد أيمن البطنيجي لـ"الرسالة نت" أن التحقيقات جارية لمعرفة ملابسات جريمة القتل، مشيرا إلى أن الطب الشرعي واجه صعوبة في تشريح الجثة، "لأنها شبه متحللة كليا ولضعف الإمكانات المتوفرة طبيا في القطاع".

وقال البطنيجي: "لم يتمكن الطب الشرعي من معرفة أداة الجريمة: سكين أو عصا", وأضاف: "لم نتأكد إذا كان الطفل قد تعرض لمحاولات اغتصاب أم لا, ولكن لم تتعرض الجثة لأي نوع من سرقة الأعضاء، والجثة مقتولة منذ حوالي شهر".

اعتاد القتيل أحمد أن يذهب إلى المدرسة برفقة صديقه، ولكن تغير الوضع يوم الحادثة بفعل تأخره صاحبه بالاستيقاظ، فشاء القدر أن يسلك الطريق بمفرده.

"أبو يعقوب شافوا مع اثنين عند المقبرة".. بهذه العبارات التي رددها والد الطفل حاولنا أن نتخيل شكل الحادثة.. وتابع أبو أحمد بالقول: "أبو يعقوب جارنا ما دقق على الأمر يومها"، ووفق والد الطفل فإن أبو يعقوب قال له: "لو شفت الشباب راح أعرفهم".

وهنا يكمن السؤال: "هل كان أحدهم يرصد حركات أحمد ليحصد براءته يوم الأحد؟".. طلبنا من الأب المكلوم أن يرافقنا في الطريق الذي اعتاد أحمد أن يسلكها للذهاب إلى المدرسة, فلم يلفت انتباهنا شيء غريب فيها, فالمنطقة شارع رئيسي حوله أراض خضراء تحتضن بعض البيوت الاسبستية البسيطة, وعند أول منعطف توجهنا يسارا إلى أن وصلنا مدرسته موصدة الأبواب لسبب انتهاء الدوام.

"الرسالة نت" كانت ترصد المكان وتتخيل أحمد وهو يمشي صباحا نحو مدرسته ببراءته التي سلبت منه مبكرا, وتبين لنا أن المسافة من منزل القتيل إلى المدرسة حوالي 900 متر أو كيلو متر واحد تقريبا إذا سلك الطريق الرئيسي.

ولكننا فتحنا عين الدهشة عندما توجهنا إلى المدرسة عبر طريق رملية (التفافية) مختصرة يسلكها كثيرون من الطلبة للوصول إلى مدارسهم أسرع, ولا بد للسائر خلالها من أن يمر من أمام البيت المهجور الذي وجد فيه أحمد مغطى بالحجارة, وكذلك من المقبرة التي شوهد فيها الطفل آخر مرة وفق أقوال الجيران, والمسافة بين البيت والمقبرة لا تتجاوز 200 متر!.. فهل سلك الطفل أحمد هذه الطريق المختصرة وتعرض لحادثة الاختطاف هناك؟، أم إن الجناة أرادوا إيهام المتخصصين أنهم قتلوه في البيت؟.

والد القتيل أجاب عن الشق الأول من تساؤلاتنا بقوله: "ابني معتاد على السير من الطريق الرئيسي مع صديقه".

مشهد الوداع

القدر أرسل صاحب المنزل المهجور لإكمال بعض أعمال البناء الموقوفة منذ سنوات, وما إن دخل المكان ورفع بعض الحجارة حتى اشتم رائحة غريبة دفعته للبحث عن سببها, فكانت الفاجعة حين شاهد جثة الطفل أحمد طنبورة المتحللة وحقيبته المدرسية فوقها.  

يوميا كانت تتهيأ أم أحمد للموت لكن لم يخطر ببالها لحظة أن الموت سيخطف صغيرها أحمد بغتة.. فصول الألم قرأناها من ملامح وجهها المصفر وهي تسترجع تصرفات طفلها قبل أسبوع, وقالت: "قبل ما يختفي بأسبوع كان دايما يشكي من رجليه ويحكيلي لو متت يمه اعمليلي عزا كبير وحلو".

لم يعلم أحمد أن الوحوش البشرية كانت تنظره لتغتال طفولته، مما دفع بذويه لرفض فتح بيت عزاء لفقيدهم إلا بعد معرفة القاتل لإحالته للمحاكمة، مطالبين المباحث بالتسريع في تحقيقها وإعدام الجاني أمام الملأ.

أوراق النعناع ذبلت حزنا على أحمد فهي التي كانت تلوح بها يمينه وينادي بالسوق مع والده لبيعها, ووصلت جثته إلى ثلاجات الموتى ولم يتمكن أحدهم من تقبيله أو ضمه إليه, وآخر كلمات الثكلى المفجعة لـ"الرسالة نت": "لحتى الآن بحلم إني أضمه لحضني".

غياب الطفل طنبورة الغامض انتهى بدفنه في المقبرة نفسها التي تعتبر الشاهد الوحيد على تفاصيل الفاجعة, وما زال التساؤل سيد الموقف: بأي ذنب قتل أحمد؟.

البث المباشر