قائمة الموقع

"المحروقات" تَشقُ طريقها لغزة بِشق الأنفس !

2012-05-17T06:36:52+03:00
شاحنات تنقل الوقود الى غزة
الرسالة نت - محمد أبو حية

تنتشر الخيام وغرف الصفيح على الحدود الفلسطينية- المصرية بحي "البراهمة" شرق مدينة رفح جنوب قطاع غزة, تخفي تحتها أنفاقا حفرها الفلسطينيون لمواجهة سنوات الحصار الخمس العجاف.

لم تضق الأرض بالفلسطيني ذرعا, فوهبته جوفها ليشق طريقه صوب جارته مصر, فطوع كافة إمكاناته لكسر الحصار.

قرب بوابة الفاتح صلاح الدين أقصى جنوب القطاع ثمة أناس أخذوا على عاتقهم سد جزء من رمق غزة فيغدون خارج حدود القطاع خماصاً على أمل أن يعودوا إليه بطاناً.

"أبو يوسف" فلسطيني في العقد الرابع من العمر, يملك نفقاً بحي "البراهمة" يخصصه لاحضار المحروقات متحدياً مخاطر جمة قد تجعله يخسر نفسه وماله.

يروي ابو يوسف حكاية البترول ويقول أنه يشتري المحروقات من مهربين مصريين لا يعرف هوياتهم في شبه جزيرة سيناء ليوفرها للقطاع, ولا يستبعد أن يغدر به في أي لحظة وتتلاشى ثروته.

ويرجع في حديثه لـ"الرسالة نت " أسباب شح الوقود في غزة للأزمة التي تعاني منها مصر, إضافة للبطاقة الحمراء التي ترفعها الأجهزة الأمنية المصرية بوجه المحاولة الشعبية لإيصال الوقود للقطاع.

"

المخزون الاستراتيجي في غزة تدهور بعد تراجع توريد الوقود, بسبب إقدام المهربين المصريين على رفع ثمنه ما فاقم الأزمة لتطال كافة مناحي الحياة بالقطاع منذ ما يربو على ستة أشهر. 

"

وأشار "أبو يوسف" إلى أن المحروقات تُورد لشمال سيناء "بالقطارة" الأمر الذي ولد أزمة مشابهة للتي يحيها القطاع لكن على نطاق أوسع.

واوضح  "أن أزمة المحروقات تفتعلها جهات وصفها بالآثمة داخل مصر بوصاية خفية لتأليب الغزيين ضد حكومتهم وإرغامهم على شراء الوقود (الاسرائيلي) الذي تستفيد من عوائده السلطة بالضفة المحتلة".

ويضطر 20 % من الفلسطينيين فقط لاستهلاك السولار (الإسرائيلي) لارتفاع ثمنه, حيث يبلغ سعر لتر البنزين سبعة شواقل وخمسون أغورة, والسولار ستة شواقل وثمانون أغورة للتر الواحد, بعدما سمح الاحتلال بضخه للقطاع مؤخراَ.

وأكد "أبو يوسف" أن المخزون الاستراتيجي في غزة تدهور بعد تراجع توريد الوقود, بسبب إقدام المهربين المصريين على رفع ثمنه ما فاقم الأزمة لتطال كافة مناحي الحياة بالقطاع منذ ما يربو على ستة أشهر.

وكان صاحب النفق الفلسطيني يشتري السولار المصري بجنيه وسبعة وعشرون قرشاً قبل الأزمة الحالية ويبيعه لتجار القطاع بـــ (83) أغورة.

وفشل "أبو يوسف" مراراً في شراء المحروقات من شركات البترول بشمال سيناء بفعل الإجراءات الأمنية المصرية, فلجأ لشرائها من المهربين إلا أن بعضها يصله بعجز يتجاوز نسبة 10%.

الأرباح الطائلة التي يجنيها "المهرب" في الجانب المصري تفتح شهيته للمزيد, ويجوب الصحراء بحثاَ عن المحروقات لبيعها للفلسطينيين بحسب مالكي الأنفاق.

أرض الأحلام

متر الأرض في حي "البراهمة" الحدودي بمثابة كنز لصاحبه الفلسطيني, وكذلك الحال للمصري على الضفة الأخرى من الحدود.

ولدى "أبو يوسف" ثلاثة مضخات –للبنزين والسولار- تقع على مرمى حجر من الحدود المصرية ويدفع ألفي دولار شهرياً للفلسطيني الذي يملك الأرض التي يقام عليها نفقه, كما يدفع المبلغ نفسه للمصري على الجانب الآخر من الحدود.

"خرير الوقود" في خزانات المحروقات بجوار نفق "أبو يوسف" له إيقاع لا يفهمه سوى العاملين لديه, فكل واحد منهم يطلق العنان لحواسه الخمس لكونه يعوم على بحر من المواد المشتعلة.

"

يصطف يومياً المئات من الفلسطينيين بمركباتهم أمام محطات تعبئة الوقود بمحافظات غزة للحصول على اليسير من –السولار أو البنزين- لتسيير أمور حياتهم. 

"

يعمل لديه اثنا عشر فلسطينياً لا يتجاوز عمر أكبرهم 30 عاماً, ويدفع لكل واحد منهم 500 دولار شهرياً, بينما يعطي واحداً ألف دولار مقابل إدارته لأعمال النفق وحصر كميات الوقود التي تضخ يومياً من مصر ليروي بها عطش غزة.

ويسبح عمال الانفاق بمساحة لا تتجاوز 700 متر مربع, ويجيدون لغة الإشارة حتى يتمكنوا من العمل تحت الضجيج الناجم عن صهاريج الوقود الفلسطينية في المنطقة.

ترسل شركات البترول العاملة في القطاع بموزعيها لمنطقة الأنفاق بحي "البراهمة" شرق رفح لأخذ حصتها من المحروقات وكلها أمل بألا يعودوا "بخفي حنين".

لقمة العيش مرة

أبو علاء يعمل سائقاً لأحد صهاريج الوقود الفلسطينية, يميل لون بشرته لتربة المنطقة الداكنة, غير أن عينيه واسعتان كفضاء المكان.

يرابط الرجل الخمسيني قرب الأنفاق لساعات وقد يضطر للمبيت بانتظار ضخ الوقود للجانب الفلسطيني حتى يحصل على حمولة قاطرته.

استبشر أبو علاء خيراً أثناء حديثه لـ"الرسالة" عندما مرت من فوقه "سحابة صيف" وانهمرت منها قطرات المطر لتهدئ من روع الغبار المتطاير بالمكان, وأعرب عن أمله في أن تكون أزمة المحروقات "سحابة صيف" ليس إلا.!

أومأ برأسه نحو مراسل "الرسالة نت " من شدة الضجيج قرب بوابة منطقة الأنفاق ورفع صوته قائلاً "لقد اعتدت قبل الأزمة على نقل 200 ألف لتر من المحروقات يومياً لمحطات التعبئة بالقطاع, لكنني اليوم لا أنقل سوى 50 ألف لتر بشق النفس وبشكل غير يومي".!

ويصطف يومياً المئات من الفلسطينيين بمركباتهم أمام محطات تعبئة الوقود بمحافظات غزة للحصول على اليسير من –السولار أو البنزين- لتسيير أمور حياتهم.

يُسخر أبو علاء قاطرته في هذه الأيام لتغذية المؤسسات الحكومية والمصانع والشركات بالوقود وفق رؤية واضحة وضعتها الجهات المختصة بالقطاع.

وتعد الهيئة العامة للبترول هي الجهة المخولة بـإدارة أزمة المحروقات من خلال توزيع الوقود الذي يورد عبر الأنفاق بحسب المخطط الجغرافي والسكاني في محافظات القطاع لتلبية حاجات المواطنين.

كلهم أسرة

يُصر بعض نظراء "أبو يوسف" في المهنة على مواصلة الطريق فيما خلع البعض الآخر ثوب العمل وركن إلى جانب معداته لصعوبة الحصول على المحروقات وتأرجح أسعارها.

أبو برهوم -تجاوز الخمسين من عمره- سارع لمسح المنضدة والكراسي في "صالون" نفقه كما يحب تسميته فثمة ضيوف وصلوا لمكان عمله المهجور.

ويصف أبو برهوم في حديثه لـ"الرسالة نت" سياسة "لي الذراع" التي حاول بعض مهربي الوقود المصرين اتباعها معه قبل أن يقرر وقف العمل بنفقه المخصص للمحروقات فقط.

وأكد "أنه لو استجاب للمهربين واشترى المحروقات منهم بأسعار مضاعفة فسوف يطمعون به مجدداً ولن تقف الحكاية عند هذا الحد".

كوب الشاي بطعم "البطالة" له مذاق مٌر بجوار نفق كان يدب بالحياة, إلا أن صاحب اللحية البيضاء أصر على أن نحتسيه ومهد له بقطعة حلوى لتغير مذاقه.

ويقول أبو برهوم أن لديه مضختان من الوقود تكلفه كل واحدة منها 6 آلاف دولار, غير أنه يدفع إيجار الأرض التي حفر ببطنها نفقه سواء عمل أم لم يعمل.

"

المحروقات التي تورد لغزة عبر الأنفاق لا تفي بـ 15% من احتياجات القطاع للوقود في الوقت الحالي.

"

يخرج أصحاب الأنفاق الكلمات بعفوية كبيرة أمام "الرسالة نت"  أملاً في أن تخترق رسالتهم حالة الصمت العربي والدولي على حصار غزة ومحاولات إغلاق طاقة الأمل التي فتحها الشباب الفلسطيني بسواعدهم الطرية في جدار الحصار الغليظ.!

إصرار على العمل

في زاوية اخرى من زوايا منطقة الانفاق يعبر ابو أحمد عن اماله ويقول انه يأمل بأن تنفرج الأزمة قريباً وتذهب مؤامرات (إسرائيل) وحلفائها بحق غزة وشعبها أدراج الرياح.

لا يخفي "أبو أحمد" أن كميات الوقود التي يشتريها تتعرض للنهب في بعض الأحيان بشكل كلي وفي البعض الآخر تصله ناقصة, مستدركا بالقول "الأمين يحرص على العمل لان أرباحه كبيرة لكن المهربين هم من لا يوفون بتسليم الكميات كما تم الاتفاق عليها.

وفي بعض الأحيان يمتزج الدم الفلسطيني بالوقود عندما تباغت طائرات الاحتلال العاملين بصواريخها فتقتل وتجرح العشرات منهم.

نفق "أبو أحمد" القريب نسبياً من منازل المواطنين بحي "البراهمة" تعرض للقصف (الإسرائيلي) أكثر من مرة كان آخرها نهاية العام المنصرم ما أدى لاستشهاد اثنين من عماله وجرح آخرين.

ينكب كل عامل لدى "أبو أحمد" على إنجاز مهمته ليصل الوقود للفلسطينيين بسلام, ويتسلق أسمنهم بخفة بين الفينة والأخرى فوق خزانات النفق للتأكد من امتلائها بالسولار.

لم يفكر رب عملهم بتسريح أي منهم على الرغم من تراجع توريد المحروقات من الجانب المصري, ويتمسك بعماله "ليذوق معهم المر كما أكلوا الحلو معاً" حسب تعبيره.

ويؤكد "أبو أحمد" أن مجمل ما ابتاعه من مصر وضخه لغزة خلال الشهر الماضي والحالي لم يتجاوز 100 ألف لتر, ما دفعه لتقليص عدد مضخات الوقود من خمسة إلى إثنتين فقط تماشياً مع الوضع الراهن.

من جانبها تؤكد جمعية أصحاب محطات الوقود أكدت أن المحروقات التي تورد لغزة عبر الأنفاق لا تفي بـ 15% من احتياجات القطاع للوقود في الوقت الحالي.

وأوضح "أبو أحمد" أن لديه أموالا عند مهربين مصريين كان قد حولها قبل شهور لقاء شراء المحروقات إلا أنه لم يحصل حتى اللحظة على الوقود بيد أن أمواله معرضة لخطر الضياع مع مرور الأيام.

وتشهد غزة أزمة خانقة في قطاعات "الصحة والتعليم والصيد البحري والنقل والمواصلات والصناعات المختلفة" بفعل شح الوقود منذ نوفمبر العام المنصرم.

ويجمع بعض أصحاب الأنفاق المتخصصة لجلب الوقود أن غزة بحاجة لــ 10 مليون لتر من مشتقات "الذهب الأسود" على مدار شهر كامل, وضخ 300 ألف لتر يومياً للقطاع لإعادة الإستقرار في المحروقات وأسعارها وتأمين المخزون الإستراتيجي مجدداً.

اخبار ذات صلة