يرصد (الإسرائيليون) جملة من المظاهر التي تعكس تراجع مكانة الولايات المتحدة في المنطقة، وعلى رأسها: عجز الولايات المتحدة عن الحفاظ على الأنظمة العربية التي كانت دور في فلكها، والتي كانت تسهم في تحقيق المصالح الأمريكية و(الإسرائيلية) في المنطقة، ولا سيما نظام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك. فقد كان هذا النظام يمثل رأس الحربة في المنظومة الإقليمية المتحالفة مع الولايات المتحدة، وكان يؤدي جملة من الأدوار الوظيفية، على رأسها التصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة. ومما زاد الأمور تعقيداً بالنسبة للإسرائيليين هو اضطرار الإدارة الأمريكية لإجراء حوارات رسمية مع ممثلي الحركات الإسلامية التي صعدت للحكم أو التي في طريقها للحكم في الدول التي احتضنت الثورات العربية، حيث أن الأمريكيين رأوا في الحوار مع الإسلاميين محاولة لتقليص الأضرار الناجمة عن سقوط أو إضعاف الأنظمة المتحالفة معهم.
وعلى الرغم من أن (إسرائيل) الرسمية قد عبرت بشكل واضح وصريح عن انزعاجها من هذه الحوارات، على اعتبار أن إضفاء شرعية دولية على ممارسة الإسلاميين الحكم يمثل تحولاً خطيراً في البيئة الاستراتيجية لـ(إسرائيل)، إلا أن الأمريكيين أوضحوا أنه ليس في حكم الوارد لديهم التراجع عن هذا التوجه.
ويرى (الإسرائيليون) أن الضربة التي تلقاها قادة العسكر في تركيا الموالين للغرب على يد حكومة طيب رجب أردوغان، دون أن تتمكن واشنطن من التدخل للدفاع عنهم هو مظهر آخر من مظاهر الضعف الأمريكي. والمفارقة التي تغيظ (الإسرائيليين) تتمثل في أن مكانة أردوغان تحديداً قد تعاظمت إلى حد كبير في أعقاب تفجر الثورات العربية، حتى أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد صرح مؤخراً بأن أردوغان هو من زعماء العالم القلائل الذين يحرص على الاتصال بهم في فترات متقاربة جداً.
ويعد (الإسرائيليون) أن نجاح حزب الله وحلفائه في تشكيل حكومة في لبنان وتوصل حركتا فتح وحماس لاتفاق لإنهاء حالة الانقسام، رغم الاعتراض الأمريكي مؤشرين إضافيين على تراجع الدور الأمريكي. صحيح أن اتفاقات المصالحة الفلسطينية لم تجد طريقها للتطبيق، إلا أن مجرد جرأة رئيس السلطة محمود عباس على التوصل لها يدلل –في نظر (الإسرائيليين)- على تراجع واضح في تأثير الولايات المتحدة.
العامل الاقتصادي
يعي (الإسرائيليون) أن الأسباب التي تقف وراء مظاهر الضعف الأمريكي التي تمت الإشارة إليها مرتبطة بتحولات ذاتية في المنطقة، حيث أنه لم يكن بوسع الإدارة الأمريكية الحيلولة دون تفجر ثورات التحول الديموقراطي في العالم العربي، وهو ما أفضى تبعاً لذلك إلى تعاظم مكانة تركيا، وأصاب أبو مازن بالحرج ودفعه نحو التوقيع على المصالحة حتى وإن أضمر في قرارة نفسه عدم انجازها.
لكن (الإسرائيليين) يعون أيضاً أنه لا يمكن تجاهل العامل الاقتصادي كمحدد لفهم تراجع الدور الأمريكي في المنطقة. فبسبب الأزمة التي تعصف بالاقتصاد العالمي، فإن الإدارة الأمريكية الحالية باتت حساسة جداً لأي تطور ترى أنه قد يؤثر سلباً على الاقتصاد الأمريكي. ونظراً لأن الأمريكيين باتوا متوجسين من قدرة الصين على زيادة تأثيرها في منطقة جنوب شرق آسيا، ومحاولتها إملاء سياقات محددة في المنطقة تهدد المصالح الاقتصادية الأمريكية، فإن الرئيس أوباما قد استنتج أن مصالح أمريكية الحيوية باتت مهددة بالخطر في هذه المنطقة، وهذا ما دفعه لنقل مركز الاهتمام من الشرق الأوسط إلى جنوب شرق آسيا. والذي يدلل على هذ التوجه بشكل واضح هو قرار أوباما نقل جزء كبير من القوات الأمريكية المتمركزة في أوروبا إلى جنوب شرق آسيا.
انعكاسات تراجع مكانة الولايات المتحدة على (إسرائيل)
مثل التحالف مع قوة عالمية كبيرة، دوماً أحد ركائز نظرية الأمن (الإسرائيلية)، حيث تم التعامل مع العلاقة مع الولايات المتحدة كذخر استراتيجي من الطراز الأول. ويسود اعتقاد في دوائر التقدير الاستراتيجي في (إسرائيل) أن تراجع مكانة الولايات المتحدة ودورها سيؤدي إلى:
أولاً: المس بقوة الردع (الإسرائيلية)، حيث أن (إسرائيل) لا تعتمد في ردعها لأعدائها على قوتها العسكرية فقط، بل أيضاً على عوائد العلاقة مع الولايات المتحدة. فنظراً لإدراك الأطراف الخارجية طابع العلاقة الخاصة بين (إسرائيل) والولايات المتحدة، فإنها ستحسب ألف حساب قبل اتخاذها قرار بمهاجمة (إسرائيل)، على اعتبار أن هذا قد يؤدي إلى تدخل أمريكي مباشر أو غير مباشر يضمن خروج (إسرائيل) منتصرة من هذه المعركة.
ثانياً: أدى تراجع مكانة الولايات المتحدة في المنطقة بالفعل إلى غرق (إسرائيل) في عزلة إقليمية، حيث أن بعض دول الإقليم كانت تحرص على تحسين علاقاتها مع (إسرائيل)، على اعتبار أن هذه هي الوسيلة الأنجع للوصول إلى واشنطن. ومع تراجع مكانة واشنطن ودورها لم يعد هناك ما يغري هذه الدولة بمواصلة هذا النهج. وهناك خشية جدية في (إسرائيل) أن تضطر الدول العربية التي لم تشهد ثورات، والتي ارتبطت بعلاقات خاصة مع (إسرائيل) لإعادة تقييم علاقاتها مع (إسرائيل) بعد أن لمست تأثير تراجع الدور الأمريكي.
ثالثاً: زيادة الأعباء الاستراتيجية على كاهل (إسرائيل)، وتقلص هامش المناورة أمامها. فلقد تمكنت (إسرائيل) من شن حروب وحملات عسكرية ضد أطراف عربية بسبب حرص دول عربية على توفير الظروف الإقليمية المناسبة لذلك من منطلق الحرص على استرضاءً للولايات المتحدة. وخير مثال على ذلك الحرب على لبنان 2006 والحرب على غزة 2008، مما يعني أن تراجع مكانة الولايات المتحدة سيؤثر سلباً على البيئة الاستراتيجية لـ(إسرائيل) ويقلص قدرتها على العمل ضد أعدائها.
ومما يثقل على كاهل (إسرائيل) انضمام الرأي العام كعامل مؤثر على دوائر صنع القرار في العالم العربي في أعقاب الثورات العربية، بحيث أن (إسرائيل) باتت ترى أنه يتوجب عليها قبل الشروع في عمل عسكري ما أن تأخذ بعين الاعتبار ردة الرأي العام العربي عليها.
رابعاً: نسفت تأثيرات تراجع مكانة الولايات المتحدة في المنطقة صحة الافتراض الذي حاولت (إسرائيل) وحلفاؤها في الغرب تسويقه بأنها تمثل ذخراً إستراتيجياً للغرب وتحديداً للولايات المتحدة، إذ تبين بشكل لا يقبل التأويل أن العكس هو الصحيح. بدليل أن (إسرائيل) هي الطرف الأكثر تضرراً من تراجع مكانة الولايات المتحدة. وهذا ما يشير إليه بشكل واضح كل من الباحث (الإسرائيلي) في الشؤون الاستراتيجية عومر جنندلر، وكبير المعلقين العسكريين في صحيفة " يديعوت أحرنوت " رون بن يشاي.