تترك "سنارة النسيج" بصمتها بإصبعي السبابة والإبهام في يد المسن "أبو زكي خليفة" 95 عاما التي يقبض عليها طويلا لإنتاج المنسوجات اليدوية بدقة وحرفية عالية.
ويعشق ذو اللحية البيضاء مهنته التي تعلم أبجدياتها منذ 83 عاما, فيقصد الأسواق الشعبية في قطاع غزة لشراء المادة الخام التي يستعملها لنسج "القبعات والمفروشات التراثية".
"أبو زكي" يشتري المنسوجات الصوفية القديمة من الأسواق ويعيد تدويرها لإنتاج كل ما هو حديث؛ وليتلافى ارتفاع ثمن "كُرات الصوف الجديدة".
مهنة النفس الطويل
وعاد المسن "خليفه" بذاكرته إلى بلدته الأصلية "يبنا" التي هُجر منها عام 1948 ليروي لـ"الرسالة نت " كيف تعلم المهنة التي تحتاج للصبر و"النفس الطويل"، وفق ما يقول.
وبين أنه نسج أول "كنزة" عندما كان عمره 12 عاما على إحدى أطلال بلدته بوسائل بدائية حين كان يرعى الأغنام مع أقرانه بعدما ترك الدراسة لعدم تفوقه.
وأقام "أبو زكي" بعد الهجرة في عدة مناطق، فسكن في مدينة غزة ثم انتقل لمخيم البريج وسط القطاع إلى أن استقرت به الحال في مخيم النصيرات بالمحافظة الوسطى.
ويجلس المسن "خليفة" كل صباح في "مشغله"، ويمرر خيط الصوف بين أصابع قدمه اليسرى في حين تتراقص "كرة الصوف" يمينا ويسارا عندما يجذبها بسنارته ليصفها في قبعة ينسجها لأحد زبائنه.
ولا يتعامل "أبو زكي" مع زبائنه بسواسية؛ فهو يميل للمسنين ويبيعهم القبعات بثمن أقل من الشباب الذين يتهافتون على "مشغله" للتوصية على قبعات تناسب ميولهم، فهو يعمل بقاعدة "قليل دائم خير من كثير منقطع"، فيبيع القبعة الواحدة بخمسة شواقل في حين تستحق هي أكثر من ذلك بناء على صعوبة إنتاجها.
حب المنافسة لدى "أبو زكي" عزز عشقه للمهنة وهو طفل، فكان يتسابق مع أصدقائه على النسيج يدويا حتى نجح في صناعة "السنانير" بنفسه، فكلما التقط عودا أعجب بشكله وقوته.
يوم الهجرة
وتزخر ذاكرة "خليفة" الذي هاجر وعمره 25 عاما بالذكريات والمناسبات الجميلة التي قضاها في فلسطين قبل أن تحتلها بريطانيا وتهديها لـ"إسرائيل"، "وكأنها سلعة"، وفق قوله.
تبادُل أطراف الحديث مع المسن جعل تعابير وجهه تتبدل حزنا على أملاكه التي تركها مهاجرا في النكبة مع زوجته وطفله البكر "زكي" الذي كان يبلغ من العمر عامين ونصف العام يومئذ.
وقد عمل "أبو زكي" في قطف الثمار وبخاصة البرتقال، لذلك فرائحة زهر الحمضيات عند ساعات الفجر الأولى ما تزال تقيم في أنفه وهو يردد أبيات الشعر بين ثنايا حديثه للتعبير عما يجول في صدره.
ويصف يوم الهجرة بالمرير عندما لجأ للعيش في "محجر" مع أبيه وأمه وزوجته وطفله بحي الشجاعية -شرق مدينة غزة- بعد أن هاجر قسرا عن موطنه الأصلي.
داخل الحديقة
ويترك "خليفة" مشغله كل يوم جمعة ليقضيه لدى ابنه الأوسط، فيسارع أحفاده للجلوس حوله من أجل الاستماع لحديثه الندي، وليستمتعوا بالإطراء عليهم بكلمات موزونة ينسجها سريعا لمداعبتهم.
الرجل يشعر بالراحة في بيت نجله "أبو يحيى" عندما يجلس في حديقة منزله التي يحفها بالنخل فيما تشكل الزهور حزاما للجلسة زرع بعناية فائقة.
ولدى "أبو زكي" أكثر من 60 حفيدا وحفيدة من أبنائه السبعة -خمسة ذكور وبنتان-، موضحا أنه يتابع أخبارهم عن كثب لتحديث سجل بياناته وإحصاء كل ضيف جديد على الدنيا من ذرية أبنائه.
ويستذكر هنا يوم زفافه على عروسه قبل نحو 75 عاما فيقول إن الأفراح في بلدته كان لها رونق خاص، "إذ تقام على مدار أسبوع ترافقها الدبكة الشعبية والأغاني التراثية والرقص على الخيل"، مشيرا إلى أن العروس كانت تمتطي الخيل العربي الأصيلة وهي ترتدي ثوبا فلاحيا وتحمل سيفا بيدها اليمنى وتضعه بين عينيها, "ثم يقود عريسها الفرس وهو يسير على قدميه حتى يصل منزله، ثم ينزلها إلى بيتها على وقع الزغاريد".
يستذكر المؤامرة
ونقل "خليفة" عصاه التي يتكئ عليها من يده اليسرى إلى اليمنى بسرعة فائقة ثم ضرب بها الأرض عندما تذكر المؤامرة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني وأفضت لتهجيره, مستنكرا التخاذل العربي المستمر عن نصرة القضية الفلسطينية.
ولا يستطيع "أبو زكي" أن يترك معدات النسيج بعيدا عنه فيصطحب "سنارته" وبعض "كرات الصوف" لبيت ابنه من أجل أن ينهي صناعة إحدى القبعات التي تداركه الوقت فيها ولم ينجزها، مبينا أن المشغولات اليدوية التي تحيكها أنامله تنال إعجاب المارة والزبائن الذين يزورون "مشغله" بين حين وآخر للتعرف على الجديد لديه.
ويستيقظ مبكرا لتساعده أشعة الشمس في إنجاز عمله الذي يحتاج لنظر حاد بفعل دقته، ولكن سنوات الخبرة الطويلة تسهل عليه العملية كثيرا، فالقبعة الواحدة تحتاج لفة صوف أو لفتين لتكون جاهزة طبقا لرغبة زبائنه بيد أن إنجازها يستغرق ما يزيد عن خمس ساعات من العمل على قدم وساق.
ويبين "خليفة" أنه يجيد قراءة واقع الأمة من شدة متابعته للإذاعات المحلية والعالمية، فيصف ما يجري في الوطن العربي "بالمهزلة", ويقارن بين تطويعه للخيط بالسنارة للوصول للقبعة، "وبين رضوخ قادة الأمة لإملاءات الغرب لتحقيق أهدافهم الخبيثة".
"أبو زكي" ابتسم لإعجاب حفيده "أحمد 18 عاما" بتحليله، فرفع الجد قبعته المخصصة لمناسبة سنه و"هندامه", وأضاف أنه ترك الدراسة في بلدته "يبنا" قبل الهجرة لأنه لم يكن متفوقا، ولكنه يجيد القراءة ويحفظ الشعر ولديه القدرة على التحليل.
وأوضح أنه كان يدرس بثلاثين قرشا في الشهر غير الهدية التي يقدمها لمدرسه نهاية كل أسبوع وهي "بيضة دجاجة ورغيف خبز".
ويؤكد "خليفة" أن غايته من وراء صناعة القبعات والمفروشات الصوفية هي التسلية لأنه يعشق هذه المهنة إضافة إلى أنها تحقق له التواصل مع أبناء جيله الذين يزورونه على مدار فصول العام الخمس لشراء ما يناسبهم من القبعات كلما تبدل الطقس.