لقد كان من المفاجئ أن يتطوع موشيه يعلون، نائب رئيس الوزراء والوزير المكلف بملف التهديدات الإستراتيجية في الحكومة (الإسرائيلية) بالإعلان عن حكومته هي التي تقف خلف الهجوم الإلكتروني الذي استهدف مؤخراً منظومات حواسيب إيرانية حساسة. فقد كانت هذه المرة الأولى في تاريخ (إسرائيل)، التي يعلن فيها مسؤول صهيوني مسؤولية كيانه عن عمل سري ضد دولة أخرى.
ولقد كان من الواضح أن مسارعة يعلون لتحمل المسؤولية عن الهجوم تأتي لمنع الرئيس الأمريكي باراك أوباما من توظيف هذا الهجوم لتحسين صورته في خضم حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث كان من الواضح إن الولايات المتحدة لعبت دوراً مركزياً في تنفيذ الهجوم.
ومما لا شك فيه أن صناع القرار في (تل أبيب) معنيون بإبقاء أوباما عشية الانتخابات الرئاسية تحت دائرة الضغوط التي تمارسها عليه المنظمات اليهودية عبر إظهاره كقائد متهاون في مواجهة إيران. أوباما لم يقف صامتاً، حيث سارع البيت الأبيض إلى تسريب خبر لصحيفة " نيويورك تايمز " مفاده أن الولايات المتحدة – وليس (إسرائيل) – هي المسؤولة عن تنفيذ الهجوم على إيران، وأن هذا الهجوم جاء بناءً على تعليمات صارمة من أوباما تقضي بتكثيف الهجمات الإلكترونية على المشروع النووي الإيراني.
ولا خلاف في (إسرائيل) على أن الأمريكيين هدفوا من خلال هذا التسريب إلى إيصال رسالة للرأي العام الأمريكي بشكل عام وللمنظمات اليهودية الأمريكية مفادها أن أوباما مصمم على إحباط المشروع النووي الإيراني، وأن الانتقادات التي توجهها أطراف حكومية (إسرائيلية) للسياسات التي تنتهجها الإدارة الأمريكية الحالية ضد إيران غير مبررة.
وبغض النظر عما إذا كان الهجوم الإلكتروني الأخير قد نفذ من قبل الأمريكيين أو (الإسرائيليين) أو كان نتاج جهد مشترك، فإنه بات من الواضح أن الهجمات الإلكترونية على المشروع النووي الإيراني أصبحت أهم آليات العمل المباشرة التي يتم توظيفها لتقليص قدرة الإيرانيين على مواصلة مشروعهم النووي. لقد جاء التركيز على شن الهجمات الإلكترونية، كأحد مركبات الحرب السرية ضد إيران، لأن تنفيذ هجوم عسكري على المنشآت النووية الإيرانية قبل موعد الانتخابات الأمريكية أصبح خياراً غير واقعي، على اعتبار أن الرئيس أوباما لا يمكن أن يوافق عليه، حيث أن أوباما يخشى أن يؤثر مثل هذا الهجوم سلباً على فرص إعادة انتخابه، لأنه سيزيد بشكل كبير من أسعار النفط، مما سيفاقم من حجم الأزمات التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي، وهذا سيصب في صالح المرشح الجمهوري.
لكن بغض النظر عن الدور الذي يمكن أن تقوم به الهجمات الإلكترونية، فإنه لا خلاف في (إسرائيل) على أن مثل هذه الهجمات لا يمكنها أن تؤدي إلى وقف المشروع النووي. وكما يقول رئيس أركان الجيش (الإسرائيلي) السابق جابي إشكنازي فإن الاستراتيجية الهادفة لإحباط المشروع النووي الإيراني تقوم على ثلاث مرتكزات أساسية وهي: حرب سرية، عقوبات اقتصادية وسياسية خانقة، وتهديد عسكري جدي وحقيقي ". وتشمل الحرب السرية بالإضافة إلى الحرب الإلكترونية: عمليات الاغتيال التي طالت علماء ذرة ومسؤولين في البرنامج النووي الإيراني، وعمليات تفجير استهدفت المرافق النووية الإيرانية.
في (تل أبيب) يدركون أن الحرب السرية بإمكانها أن تؤجل لحظة حصول إيران على القنبلة النووية، لكنها بكل تأكيد غير قادرة على إحباط المشروع النووي برمته. من هنا، فعلى الرغم من أن النجاحات المنسوبة للهجمات الإلكترونية، فإن المسؤولين (الإسرائيليين) يحاولون مواصلة الضغوط على الإدارة الأمريكية للتوجه لاستخدام القوة العسكرية ضد المشروع النووي الإيراني، وذلك عبر التهديد الواضح بأن تتولى (إسرائيل) هذه المهمة، حيث يدرك صناع القرار في (تل أبيب) أن الإدارة الأمريكية تتخوف من تبعات أي هجوم (إسرائيلي) على المصالح الأمريكية في المنطقة.
من هنا، فإن المسؤولين (الإسرائيليين) يحاولون بكل قوة الإيحاء بأن (تل أبيب) ملتزمة باستخدام الخيار العسكري ضد المشروع النووي الإيراني. لذا لم يكن من المستهجن أن يعبر وزير الحرب الصهيوني إيهود براك عن انزعاجه الشديد لأنه تولد انطباع لدى الإدارة الأمريكية بأن (إسرائيل) تراجعت عن خيار استخدام القوة العسكرية ضد المشروع النووي الإيراني. لكن براك ألمح في المقابل، إلى أن (إسرائيل) لم تعد ترى في عام 2012 كعام الحسم في التعامل مع المشروع النووي الإيراني، بمعنى أنه ليس بالضرورة أن يتم الهجوم (الإسرائيلي) على المنشآت النووية الإيرانية حتى نهاية العام.
وهناك أساس للاعتقاد أن تلميح براك يأتي لأن (إسرائيل) تدرك أن الهجمات الإلكترونية وبقية مركبات الحرب السرية التي شنت على إيران في الأعوام الثلاثة الأخيرة قد مست بقدرة إيران على مواصلة مشروعها النووي بالوتيرة التي خططت لها، وبالتالي لا داعي للاستعجال في شن هجوم عسكري عاجل.
وفي الوقت نفسه، فإن (إسرائيل) معنية بأن تقود الولايات المتحدة العالم نحو تشديد العقوبات الاقتصادية على إيران، على اعتبار أن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تدفع دوائر صنع القرار في طهران للتراجع عن مخططاتها في تطوير سلاح نووي. ولا يمكن تجاهل حقيقة أن هناك مستويات أمنية (إسرائيلية) تشكك في قدرة الدولة العبرية على تنفيذ هجوم عسكري. مع العلم أن كل التقديرات (الإسرائيلية) تؤكد أن أي هجوم على المشروع النووي الإيراني سيعمل على تأجيله لمدة ثلاث سنوات تقريباً فقط.
لكن هناك في (إسرائيل) من يرى في الحرب السرية الخيار الوحيد العملي المتاح أمام للتعامل مع المشروع النووي الإيراني في ظل المخاطر التي ينطوي عليها استخدام الخيار العسكري الواسع. ويحذر رئيس الموساد (الإسرائيلي) السابق مئير دغان من أن إيران بعد الهجوم ستكون متحررة من أي قيود يفرضها المجتمع الدولي عليها، وستعمل بوتيرة عالية من أجل إنتاج السلاح النووي، علاوة على أن ذلك سيمنح الإيرانيين الحق في الرد على (إسرائيل) بهجمات صاروخية شديدة يمكن أن تؤدي إلى مقتل آلاف (الإسرائيليين).
قصارى القول، تهدف (إسرائيل) للضغط على الإدارة الأمريكية بأن تشن حرباً بالوكالة نيابة عنها، أو على الأقل أن تفرض عقوبات اقتصادية بالغة التأثير لدرجة تدفع طهران لتجميد برنامجها النووي.