لم تفلح كل محاولات الوالدين في إنجاب أي طفل طيلة سنوات زواجهما، وبعد 16 عاما من الصبر والانتظار واللهفة رُزقا بـ"عمر فخيدة" بعد عملية زراعة.. حينها قطعا وعدا على نفسيهما بأن يحمياه من كل مكروه وأن يحفظاه بين الجفون.. لم يعلما بأن قدر الله لا بد أن يقع وأن عمر سيكون جثة هامدة بعد أربعة أعوام.
في راس كركر غرب رام الله تمايلت الأشجار مع نسيم عليل في ساعات عصر الأربعاء، تجمع الأطفال الثلاثة أبناء العمومة من عائلة "فخيذة" باحثين عن مكان للّعب، حاولوا الخروج للشارع ولكن سرعة المركبات أجبرتهم على البقاء حول منزل جدهم، تناولوا طعام الغداء وحفّتهم الجدة بالأدعية والآيات.. ملّوا من تكرار اللعب بالكرة أمام المنزل فشدّتهم براءتهم و"رجولتهم" الصغيرة إلى الاكتشاف والبحث أكثر.
تلك الحكاية كانت في مقدمتها شبيهة بكل أيام الأطفال في فلسطين، ولكنها انتهت بالعبرات والآهات والتحسر في وقت لا ينفع الندم.. بكلمات قطعتها الدموع سردت جدتهم لـ"الرسالة نت" ما حدث.
وتقول بصوت أضعفه الحزن إن أحفادها الثلاثة كانوا يلهون أمام المنزل، ولكنهم ملوا على ما يبدو فتوجهوا إلى مخزن صغير على بعد عشر درجات أسفل البيت القديم ولعبوا بكل ما وصلت إليه أيديهم حتى رأوا ثلاجة قديمة مخصصة لحفظ المشروبات الباردة كالتي تستخدم في المحال التجارية.
وحين نغوص في عالم الأطفال نتخيل ما حدث، ربما حاول أحدهم الصعود داخل الثلاجة للاختباء أو المباهاة بأنه قادر على ذلك، فلحقه الآخران وجلسوا جميعا هناك يتبادلون الضحكات على هذا "الإنجاز"، وبعد فترة قصيرة بدأوا يشعرون بضيق في التنفس وعدم راحة في ذاك المكان الضيق، فحاولوا الخروج ولكن الباب كان مغلقا بإحكام ولا يمكن أن يُفتح من الداخل.
طرقات كثيرة ربما رسموها على باب الثلاجة دون جدوى، صرخات علقت في مكانها ولم تخرج بعيدا، شريط حياة مر أمام أعينهم سريعا وكم قصير ذاك الشريط.
وعلى الجانب الآخر كان الأهل في غاية القلق، بحثوا في كل مكان يعرفونه ولم يجدوا الأطفال الثلاثة، في منازل الأقارب والجد وحولها وفي الشوارع وأزقة القرية دون جدوى.. تسلل الخوف القاتل إلى قلوب الأمهات وبدأن بتخيل الأسوأ مع الاستعاذة بالله من الشيطان وأفكاره السوداء!
ساعتان من الوقت استغرقت الأهل كي تطأ أقدامهم ذاك المخزن القديم.. مشهد مأساوي كان حين فتحوا باب الثلاجة ووجدوا أطفالهم مكدسين بداخلها ورائحة الموت تفوح من المكان.. ثلاث جثث صغيرة لم تجد الهواء الكافي هناك فآثرت الرحيل بصمت.. يد محمد كانت فوق كتف عمر ومهند وكأنه يلعب دور الطفل الأكبر بينهم ويطمئنهم، لم يعلم بأن لعبة الموت أكبر منهم بكثير.
في ساعتين فقط تبددت أحلام والدي عمر فخيدة (4 أعوام) بحفظه وصونه، ولم تعلم أم محمد فخيدة (6 أعوام) ماذا تفعل بملابسه التي تشوّق لشرائها كي يدخل بها المدرسة لأول مرة بعد أن تم تسجيله للصف الأول، أما والدة مهند فخيدة (3 أعوام ونصف) فغيبتها صورة ألعابه المتناثرة في غرفته.. كل القرية فُجعت بأزهار ثلاثة ذبلت سريعاً وحالها "إنا لله وإنا إليه راجعون".